رحلة الفنان اليمني في الوقت الحاضر، متعبة؛ خاصة مع كثافة انتشار النقاط المسلحة في الطرقات، والتي تعيق الفنان المسموح له بالغناء بالوصول إلى القاعة.. قاعة العرس طبعًا.
في مناطق سيطرة الحوثي، الغناء محرم عدا من ترضى عنهم الجماعة، وقبل فترة تم قتل الفنان نادر الجرادي داخل قاعة عرس بصنعاء، القاتل يعد أحد أفراد المليشيا، حيث أنه لا يحمل السلاح في مناطق سيطرة الحوثي غير منتسب إليهم. وليست القصة في الجريمة رغم احتواء الجريمة على تفاصيل مرعبة تكفي لكتابة أكثر من قصة، ولكن القصة في نظرة المليشيا للفن.
داهمت المليشيا أكثر من قاعة عرس لمنع حفلات زفاف، وكما قتلت فناناً قتلت عرسانًا أيضًا، ومقابل منع زغاريد الأعراس تتباهى بزغاريد الأهل حين يتلقون خبر مقتل ابنهم في إحدى جبهات القتال، ومقابل منع الأغاني تقوم بإحلال الزوامل؛ لكنها تلقى رفضًا مجتمعيًا صارخًا حتى في المربعات التي تسيطر عليها، إذ من الصعب أن يترعرع في أذن اليمني أهازيج الموت وهو المتعود على رنين العود، وطبعه ميّال للفن بالفطرة.
لا أعرف مَن مِن الفنانين الذي كان ثوريًا إبان سبتمبر، وهي الثورة التي قامت على أجداد المليشيا، أعتقد أنه علي بن علي الآنسي، كان يحمل عوده ويتجه من جبهة إلى جبهة يذكي عزائم المقاتلين بالأغاني الوطنية، كما يذكيها أيوب لأجيال.
ربما يتولد الحقد على الفن من نقطة قدرته على خدمة الذائقة الوطنية ومجابهة التشدد، ليس الحوثيون فقط من ينظرون للأغنية كجريمة، الجماعات المتطرفة تحمل نظرة التجريم للفن، وهذا ما يضع الحوثيون في قائمة المتطرفين، ولا جديد في ذلك لأن اليمنيون يعرفونه جيدًا..
فنانون شباب غادروا صنعاء هاربين من المصير القاتل، وشاب في الضالع كان يدندن لأفراح الناس بمقابل ضئيل يعيل به أسرته، تم قتله.
إبان ثورة الشباب في 2011 خرجت إلى النور مئات الأغاني والأناشيد، بل الآلاف منها، كانت الفرصة المثلى لإظهار حناجر الموهوبين والمحترفين، الكبار أيضًا لم يتوانوا للتعبير عن دعمهم للثورة أمثال الموسيقار الكبير أحمد فتحي الذي غنى وأنشد. الثورة لم تكتم فم أحد، ولم تقطع أوتار عود، ومقابل المد الفني الجارف للثورة قابله الفن المضاد بنسبة ضئيلة، الفنانون المعروفون بمجالستهم ليحيى صالح أو الذين يجلس معهم صالح في السنة مرة، غنوا ضد الثورة، وكل ما رأوا فيها: علي محسن! هذا ما فعله حسين محب أو حمود السمة الابن، أحدهم غنى ردًا على الهتافات المنادية برحيل صالح:
"والله ما اترك رئيسي لو يسيل الدم".
وآخر غنى، أو الفنان نفسه:
"شلوا لكم علي محسن مع الأراضي، أما علي صالح مانش راضي".
عندما اختلف الحوثيون مع صالح وسال الدم وقتلوه، غادر ذلك الفنان وترك جثة الرئيس.. لقد حنث بوعده، وكأنه يختزل الفن المضاد للثورة على أنه "فن واهم"، ويمكن المقارنة هنا بفنان من أبناء الثورة اسمه بلال الأغبري، أصيب في تعز برصاص المليشيا.
إذن الفارق واسع بين ثورة 11 فبراير و21 سبتمبر.. نظرة خاطفة للفن بين التاريخين يظهر الفارق بين ثورة شعب وانقلاب مليشيا!.
أعرف أن الفن اليمني مؤثر على الفن الخليجي، وهناك أغان كثيرة تراثية وغير تراثية يغنيها خليجيون، أحيانًا بلا اعتراف بهويتها، لسنا بصدد هذا الموضوع الآن، ما أود قوله هو أنني لم أتخيل أن تؤثر أغنية يمنية جديدة هذا الأثر في أوساط خليجية، خاصة أن معظم الفنانين الشباب الذين يغنون على العود إما أنهم مقلدين أو يقدمون أغان ساذجة من خلال الكلمات غالبًا. قبل شهرين تقريبًا اقتبس الخليجيون شطرًا من أغنية وجعلوا هاشتاجًا، وكانت المفاجأة أن الهاشتاج كان الأول عالميًا في ذلك اليوم على تويتر.
الهاشتاج هو "قالوا إن الحب الحالي" وهي أغنية لإبراهيم الطائفي، لكن شهرتها تحسب لصلاح الأخفش، كان الأخفش متداولًا بذلك الهاشتاج.
وجدت مقطعًا للأخفش صلاح، في تظاهرة للحوثيين، كان في المنصة وخلفه صور لقتلى الحوثي، ألقى كلمة مقتضبة فحواها "الفخر بوالده الذي استشهد مع الجماعة"، ربما هذا يفسر الحرية التي يتمتع بها الأخفش في إقامة حفلات الأعراس دون أن تعترضه المليشيا، إن الأمر قاس والفن أقسى عندما يكون دم والدك هو الضريبة التي تجعلك تقيم حفلات أعراس غنائية بمبالغ باهظة، بعد ذيوع صيته بأغنية "ياليالي" صار صعبًا.
في هاشتاج "قالوا إن الحب حالي" تجد الغرائب.. أحدهم دون على الهاشتاج سؤال من الأغنية وأعقبه بتعليق. من الأغنية: "ما السبب في ضيق حالي" والتعليق: هذا السؤول الذي حير الفلاسفة الوجوديين والأدباء ولن يجيب عليه أحد!. الفلاسفة الوجودين مرة واحدة في هذه الأغنية، ناقص يقول: لو كان بيتهوفن على قيد الحياة لأحدث السؤول شرخًا في أذنه الصماء، ووضع سيمفونية عاشرة تتخللها "ليالي"!
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس