يقال بأن الإمام يحيى سار إلى بعض القبائل التي خذلته بوقوفها ضده في معاركه مع خصمه الإدريسي، ليسألهم معاتباً: "ليش هكذا؟!"، أتاه الرد السريع: "أنت إمام المذهب، وهذاك إمام الذهب"!..
أرسلت لي صديقتي هذه الحكاية، ملحقة برموز ضحكات فكاهية، لكني لم أضحك. لم أجد في ما قرأته مادة مسلية، بل غصة مازالت عالقة في حلقي.
لم أحاول نفي الحادثة، برغم عدم تأكدي من صحتها. ولم أكابر بعناد للبحث عن ذرائع ومبررات لتفنيدها. فلم يكن التاريخ بخيلاً علينا بمثل هذه الحكايات. كثيرة هي الليالي التي قضاها، وهو يسرد علينا تحالف سيف بن ذي يزن الأسطورية مع الخارج.
أخذت بنا أحداثه تدريجياً، حتى أوصلنا لواقع زاخر بأذرع تحالفات خارج حدود اليمن، عقدتها كل من القبائل والأحزاب، وامتدت لتشمل بعض الأفراد. وكأن الأمير المتجول، الباحث عن كرسي حكمه من الخارج، شرع ومهد لنا الطريق الذي يجب علينا سيره في خط حياتنا.
الغريب في الأمر، أن المجتمع لا يجد غضاضة في فكرة التحالف والتمويل من دولة أخرى، ولا يستهجنها. على الرغم من أنها تعتبر جريمة تصل لحد الخيانة العظمى في قوانين دول العالم.
على العكس من ذلك، نتقبلها ونتداول أخبارها على الملاء بنوع من السخرية الخفيفة، أو الاستظراف، وربما أمنية في الحصول على فرص مماثلة غير مبالية بالاستتار، بينما نتأمل منابع النفط القريبة منا.
أعتقد بأن التاريخ ذو الجذور العميقة لمنطقة ما، يشكل عبء ثقيل على أبنائه، على عكس الشعوب المتخففة منه ومن دروسه. وقد لعب التاريخ والجغرافيا دورا في صناعة الشخصية اليمنية.
بعد موت الدول اليمنية القديمة، وهجرة الكثير من قبائلها لأرض أكثر لينا وطوعا له، اختارت بعض القبائل المتبقية سكن الجبال، فتكلفة الحماية فيها أقل من تلك المنبسطة رغم مصاعب العيش فيها. ودفعت في ذلك ثمنا باهضاً من الجهد والوقت لاستصلاحها والباسها كسوة المدرجات الخضراء التي تميزت بها. وانتظرت بقلق- أصبح من سماتها- منح السماء عليها.
رغم جدية اليمني في التمسك بمذهبه، إلا أنه كان يضطر أحياناً لتفضيل الذهب عنه، بعد عودة دعواته من السماء حاسرة. فسد الأفواه الجائعة بالطريقة المتاحة أمامه- سواء كان المذهب طريقها أو الذهب- أمرٌ لا يعيبه، بل يكافئ عليه، شريطة أن لا تمس أرضه، أو تقترب منها يد بسوء.
ومع استمرار مواسم الجفاف، أصبح "الفيد"، الذي تطور لتحالف مع الغير، طريق للنجاة وللحياة، بضريبة أجبرت القبيلة توسيع بعض المفاهيم والقيم والباسها ثياب فضفاضة تقاس حسب قبضة الدولة المسيطرة القوية ومسئولياتها التي تتكفل بها تجاه القبيلة، أو ضعفها.
كانت أيادي أبناء القبائل هي السلاح الذي يدافع عن تلك الدولة بكل إيمان، حتى تتكالب عليها عوامل الضعف التي تعيد المقاتل القبيلي لقريته بغصة قلقه القديم؛ ينتظر فيض السماء بمعول في قبضة، وهاجسه الأزلي يستعد بالقبضة الأخرى لغزوة فيد جديدة قد يضطر للقيام بها قريباً.
رغم مرور مئات السنين، لم تتغير ظروف هذا البلد، ليتمكن أبناؤه من التخلص من ذلك الإرث الثقيل. فما زالت القبائل تعتمد على الزراعة مصدرا للرزق. بالإضافة لهجرات فردية لا تمثل دخل ثابت ومأمون. فاضطرت بعض القبائل لعقد تحالفات لا تعتبرها تنازل حقيقي، حتى تشعرها بتكلفة لا تستحق أو ثمن فوق طاقتها.
ساهم في تلك العودة، تجاهل الدولة الحديثة مسؤوليتها، طوال عشرات السنين، تجاه القبيلة والمواطن بشكل عام؛ والخيبة المتأخرة التي أصابت الغالبية لمردود اكتشاف النفط الوهمي، الذي لم يكن سوى "فيد" بمواصفات حديثة، لا تستفيد منها سوى فئات محددة.
لعل التحالفات القديمة كانت أقل تكلفة، ولا تتجاوز غزوات متفرقة بين القبائل، لا تفقدها في المجمل السيطرة على أرضها أو سيادتها، داخليا على الأقل. فصعوبة جغرافية اليمن، لم تجعل منها ذلك المطمع السهل الذي يغري أي غريب لاستغلال خطيئة اليمني وشهوته. الغازي المضطر فقط، هو من تجرأ على محاولة إخضاع الأرض العصية وبفاتورة غالية.
هل يراهن اليمني اليوم على سياسة قبول التحالفات غير مأمونة النتائج باطمئنان لوعورة جغرافية "خطه الاحمر الوحيد"، أم أنه تنبه لمعادلات الزمن المتغيرة، وقد أصبحت الأرض التي يقف عليها من آلاف السنين أثمن- في نظر الغير- مما كان يعتقد ؟!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني