حَسب الحرب أنها حرب، لن تضيف الكلمات والحروف لأمرها شيء. تنتصب أمام لياليك الثقيلة برتابة حجارة سوداء حتى تحسب ألا هروب منها سوى بالاحتضار.
ينتابها حس الدعابة، غالباً. فتسلى نفسها بالتلاعب بك، بسخرية متعمدة وهي تعيدك لأسواء ذكرى في طفولتك البعيدة. طفل حائر، تكاد أن تداس بين الزحام بعد أن انزلقت اصابعك الصغيرة من كف والدك. لم ينسى ذلك الطفل ضياعه، وغصة الشعور ببعض الخذلان من الكف التي كادت أن تفلته!..
يحسب من يعيش أيام الحرب، أنها عقاب خاص به وبمن ابقتهم الظروف في محيطها. لكنها لا تستثني أحد. ما أن اختارت اليمن مقراً لها، حتى ارخت من كبح شياطينها ليطيحوا شراً باليمني أينما كان. وإن ظن أحدهم أنه نفذ من شراكها، وشرك الحدود المقيمة بها، تستمر بملاحقته، والتعلق على ثوبه بكل تصميم وعناد ..
نبهني بريدي، قبل أيام، بنغمة رسالة واردة. فتحتها لأجد كلمات وحروف منهكة، تلهث تعبها على الشاشة وهي تحثني برجاء أن انشرها. لم أجد لها رداً. نعتقد لأوقات كثيرة، أننا مارسنا الوجع بإخلاص. تذوقناه، حتى التصقت ثمالته مُرَة على حلوقنا، اجتاحنا ووضع بصمته على قسمات وجوهنا، حياتنا، دون أن يستبعد نفسه عن تسكع الفتيان وضفائر الصبايا المخفية. لكن يبدو أن شهية الأوجاع مفتوحة وتحتاج دوماً للمزيد.
لذلك، قررت نشر الرسالة، لعل تقاسم بعض الأوجاع يمنحنا بعض من صبر وقوة:
"اختي نور؛
أكتبي عن وجع العزيز إذا أجبرته الظروف على طرق أبواب لا تفتح. أكتبي عن اليمني باني السد، وصاحب الحضارة، كيف أمسى مشردا، يبحث عن مساحة أمان لم يجدها تحت سقف أي سماء؟ إحساس من العدمية تنال منه، وهو محشور وسط الجموع التائهة، الباحثة عن أوطان بديلة تجد فيها راحتها..
اكتشفت بين جموع اليمنيين، أننا شعب لم يذق الراحة منذ سنوات..، سنوات أطول من الحرب نفسها!. محال أن يعرف الراحة من شعر بوطنه وهو يرزح تحت قلق متسابق نحو الحرب. فكيف به، وقد غرق في مستنقعات صراع لا بصيص رجاء لنزع سلاحه!!.
مئات من اليمنيين يسابقون الفجر، للاصطفاف أمام مكاتب المفوضيات، يسندون أنفسهم بالألم والمشقة إلا أن يقفوا على رأس تلك الصفوف. شاهدت بعضهم اليوم؛ بدت هيئتهم وكأنهم وصلوا للتو من اليمن، فمازال غبار الأرض على ثيابهم وأرواحهم. لست غريب عن تلك الرائحة، فبعضها يبقى في قعر النفس لا يغادر ..
اقترب مني بعض الفتية متسائلين، لم يتجاوزوا الطفولة بعد، بأوراق ونظرات تائهة. كان الزي المدرسي للمرحلة الأساسية يغطي هزال أجسادهم. لكِ أن تتخيلي معنى عدم قدرتهم على شراء ثياب جديدة للسفر!..
ما نتحمله كثير. أكثر مما نطيق. لا أعلم حقاً مدى قدرتنا على التحمل أكثر!".
صمتت الحروف، وانتهت الرسالة، دون أن يذيلها مرسلها باسم. ربما أختار أن يكون مجهولاً، أضاعت الأيام موطنه، وظن عليه المهجر بقليل من أمان..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني