ليست الحرب بذلك السوء. لا أقول ذلك بسبب تجارتها المربحة التي تُخلق من العدم، أو هبة الإثراء غير القابلة للتفسير والتأويل، بل لمفاجأتها المبتكرة، الأقرب للصفعات!!..
كانت الثانوية العامة لعشرات السنوات، الوسواس القهري الذي يحمله الطالب في حقيبته المدرسية منذ عتبات يومه الدراسي الأول. يستمر ذلك الوسواس في نخر عقله حتى يتحول إلى كابوس، "وحش مرعب" لا سبيل للفكاك أو النجاة من أنيابه حتى لحظة اجتيازه امتحانات التقدم إليها. فقد كانت الثانوية العامة المنظومة التي اختارتها دول العالم الثالث لتقدير قيمة الطالب، وتحديد طريقه المستقبلي، ونوعية الرداء الذي سيميزه بقية عمره..
برغم هزلية تلك المنظومة، إلا أنها تضمن للطالب ذو الدرجات المتوسطة مقعد مستقبلي في إحدى هيئات الدولة ووزاراتها، ليندب عليه حظه العاثر ويشكو الفخ الذي غرسه في الكتلة البشرية السميكة لموظفي الدولة...!
بينما يأخذ المتفوق ساعات وقت أطول في تسوية هندامه وتسريح شعره، قبل أن يعلق المسطرة الشفافة الخاصة بكلية الهندسة على كتفه، ويخرج متباهياً بها. لطالما كانت تلك القطعة البلاستيكية الشفافة مدعاه للتفاخر والتباهي، مقارنة بزي الطب الأبيض- بالنسبة لي على الأقل..
كل ما سبق كان من الماضي. فقد أنهت الحرب تلك المنظومة "الجائرة"، وقضت على كابوس قلقها وندمها، الذي كان مكتوباً على جبين الطلبة بعد أن أثبت علماء الميليشيا (المبزغين) نظرية علمية جديدة ستغير نتائجها من مجرى التطور العلمي الحديث ونظرياته، دون الحاجة للاستعانة بالمعامل وتجاربها المخبرية، التي تقتطع من الدول المتقدمة جزء غير هين من دخلها القومي..
لم تكن نظريتهم الثورية جديدة المحتوى تماماً. فقد حاول "هتلر"، الزعيم النازي، برهنتها عبر حروبه العالمية بالحديد والنار. إلا أن اختياره الخاطئ للمعطيات التي ساقها، قادته للفشل الذريع والانتحار، قبل أن يدرك مكمن خطاؤه وسر هزيمته. تلقفت ميليشيا الحوثي تلك النظرية، وتداركت معادلاتها بتعديل طفيف، حين نحت عنها الجنس الآري، واستبدلته بسلالة أكثر نقاءً وذكاء بالطبع..!!
في ثانوية الميليشيا، أنت متفوق، ليس لاجتهادك أو موهبتك، يد في ذلك. فارتقائك نابع من انتمائك للسلالة الإلهية المنزهة، ولولاء كاف لمبادئها. أو لامتلاكك مهارة في الغش لا يملكها غيرك. هذا ما أقرت به نتائج الثانوية العامة للمناطق الواقعة تحت سيطرتها في الأربعة أعوام السابقة. أما بالنسبة للطلاب الذين حاولوا مزاحمتك في كشوفات الأوائل- من خارج التصنيف السابق- ليسوا سوى طفرة جينية؛ خطأ مطبعي سيتم التعامل معهم مستقبلاً عبر امتحانات قبول الجامعة.
لم يقتصر فضل السلالة على المتفوقين من طلاب الثانوية، فقد أزاحت عن "السواد الأعظم، ذو الكفاءة المتوسطة أو الضعيفة"، عبء دفن مواهبهم وحياتهم في أرشيف حكومي. فلم يعد للدولة من أرشيف أو وظائف أو حتى هيبة، بعد أن تم افراغها من مفهومها وكيانها، وأبقي- لأسباب خارجية- هيكل كرتوني يمثلها ويحتاج لوقود بشري حي يحرق في الجبهات لإسناده..!!
لا تعتقد، عزيزي المواطن، أن ميليشيا الانقلاب ظنت على أبنك دخول الجامعات وحرمته منها..! كل ما في الأمر، أنها- بحكم تفوقها الإلهي في التفكير والتدبير- اختارت ما تراه الأفضل والانسب لجيل مازال ممتلئ بالطموحات والقوة.
وجدت نفسها منصفة، حين عوضت طموحات أكتافه بأسلحة الكلاشنكوف والبازوكا، واستبدلت القماشة البيضاء لزي الأطباء، بأكفان على أهبة الاستعداد لـ"ستقباله"!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني