نحتاج للانشغال عن الوضع العام، للتوهان في تفاصيل ملهية عن حال البلد، للابتعاد تمامًا عن تفاصيل الواقع المأساوي لليمن الحزين، نحتاج لذلك كي لا نموت بجرعة زائدة من الإحباط واليأس.
نحتاج لعدم معايشة ما نعيش، للانسلاخ من أحداث الاغتيالات، بؤس الأشقاء وتخبطهم، الأوضاع الاقتصادية المزرية، هل نحتاج للتسكع في الملاهي والبارات وارتياد صالات السينما والتنزه في الحدائق المعلقة التي أنشأها الرئيس "المرحول" للانسلاخ من ألم ما نعيش؟
نحن بأمس الحاجة للتخفيف من شغف عيش تفاصيل كل انتكاسة تحدث، استمرارية الانغماس في الشغف تعنى فقدان التعافي على المدى القريب، والمفترض أن نكون أصحاء غير مثقلين بنوبات اليأس بعد انتهاء الحرب، لنرفع الوطن على أكتافنا، أو على أقل تقدير نرى عودة جزء من أصالته وإرثه الحضاري ومكانته بين البلدان.
نحن جيل الثورة.. مو نلعب.
نحتاج الانغماس في الملذات المستلبة، الاهتمام بالحيوات الشخصية، متابعة الموضة، أناقة البناطل الجينز المثقوبة من منعطفي الركبتين، ثم في نهاية الأسبوع نتصفح بسرعة أهم مجريات الأسبوع، أين وصل اليمن؟ النجم الجديد الذي بزغ في الساحة؟ النصَّاب الذي ارتقى لمنصب قيادي بفضل التمويل الخارجي!؟.. إلخ.. ثم التعبير السريع عن رضانا أو سخطنا لما جرى، ثم الاستدارة الواثقة لنتلهى من جديد..
نستحق العيش، نستحق أن نرى وطننا يبنى، وأن نكون مِنْ مَن يبنيه؛ يلزمنا قوة، وبعد الحرب يخرج الناس منهكين، علينا أن نكون مستعدين لذلك، نحن جيل الثورة، مو نلعب.
راودتني فكرة، أن نكون مثل يحيى، أقدم مشجع ريالي في القرية.. المشجع الذي آمن بأنه نحس على الفريق حينما يشاهد المباراة، فانتقل كما يقول إلى مشجع نتائج.
يحيى يجلب المياه على الوايت، يرافقه عامل شاب بأجرته، قبل سنوات كان سيلعب برشلونة مع الريال، ركن الوايت خلسة من أخيه الكبير، قطف أكبر شجرة قات خلسة أيضًا، لم يكتف بذلك، بل مسخ الشاقي الذي لم يشاهد مباراة في حياته، وذهبا إلى المدينة لمشاهدة الريال.
إحنا الملكي..مو نمزح.
كانت اللوكندة مزحومة، انقسم جمهور اللوكندة بين البرشا والريال، غطى المكان أدخنة المعسلات وروائح آباط البسطاء، تعرقوا، كان يحيى قد أقنع "الشاقي" أن يشجع الريال. عندما سدد الريال هتف يحيى بقوة.. لكن الخاتمة كانت قاسية، البرشا أمطر مرمى الريال، ومع كل هدف يُسجل تزداد قوة زعيق الشاقي: جوووووول.. الله أكبر، ليتفاجأ يحيى بانقلاب صاحبه لتشجيع البرشا وهو الذي قام بتعبئته على مدى يوم كامل لتشجيع الملكي..
انتهت المباراة بفوز ساحق في منتصف الليل، وحين خرج يحيى وصاحبه من اللوكندة لم يجدا وسيلة نقل تقلهم من المدينة إلى القرية، المسافة لاتقل عن عشرة كيلو، ليرجع محملًا بهزيمة قاسية ماشيًا على قدميه في ليل أسود، الشاقي من العزلة المجاورة لذا انعطف عائدًا إلى بيتهم، روى أخوه أنه ـ أي الشاقي ـ إلتقى بطاهش أثناء العودة، فحمل أحذيته بيديه وركض مسرعًا وحين وصل ركل الباب بقوة حتى فتحه وسقط على الأرض، ومن تحت تلك المباراة ترك العمل مع يحيى وإلى الأبد.
منذ ذلك التاريخ، تحول يحيى إلى مشجع نتائج. لا يحب مشاهدة مباريات الريال، كلما هزه الشوق للفريق، دخل النت يبحث عن النتيجة وعن الأهداف المسجلة.
"لموه شافقش قلبي بالهزائم" يقول. تعددت الأسباب لهذا التحول وإن كانت هذه الهزيمة السبب الأهم، ومن الأسباب أيضًا أن الطريق إلى اللوكندة مدجج بالمليشيا، والكهرباء لم يعد لها وجود، واللوكندة مدمرة.
منذ وصول جهاز بين سبورت، جاء يحيى في الأربع المباريات الأخيرة للريال، كان متحمسًا للمشاهدة وقد قطف القات الجيد للاستمتاع بمذاقه ومذاق الفوز، وفي الأربع المباريات لم يفز الريال، ما جعله يظن بأنه صار نحسًا: مابوش فائدة، شارجع مشجع نتائج أحسن.. قال.
لماذا نفطر قلوبنا بالمتابعة؟ ولِمَ لا نتحول مثل يحيى ونسقط تجربته الرياضية على واقع البلاد؟
ما الذي نفعله؟ الذهاب إلى الحدائق المعلقة التي أنشأها الرئيس المرحول وهي مزحومة، أم إلى صالات السينما التي تعرض الأفلام المكررة، أم أندية الكتب والثقافة المزدهرة... ثم.. من يستطيع لانسلاخ من واقع بلاده والعيش الشغوف بتفاصيلها، من يستطيع ذلك غير المسؤولين وزعماء المليشيات ومعدومي الضمير.
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس