يحكى أن أحد الحكام أمر حكومته برفع الأسعار، فخرج الناس معترضين على الجرعة، وضجت الشوارع في أرجاء المدن، أحد المسئولين نصح الحاكم بالتراجع، وآخر طلب منه الإذن لقمع الناس، غير أنه لم يفعل بأي من الخيارين، وثبت الجرعة السعرية، وانتهت الجلبة المنددة بالحكومة بعد أيام.
بعد فترة أمر الحاكم بجرعة سعرية جديدة، ثم سأل الوزراء عن ردة فعل الناس، ما حدث في المرة الأولى حدث في المرة التالية، أحد المسئولين طلب منه الإذن لقمع الناس، وآخر أشار عليه بأن يلغي الجرعة السعرية الجديدة، كان الشارع يغلي ومضاغاة الجياع ترتفع، والهتافون يصرخون ضد الغلاء منددين بالحكومة. وبعد أن تعبت الحناجر، صمت الناس وثبتت الجرعة.
بعد فترة طويلة، أمر الحاكم للمرة الثالثة بجرعة سعرية جديدة، ثم سأل الوزراء عن استقبال الجماهير لها، كان الوزراء فرحين، قالوا بأن الشعب راض بالوضع، لم يخرج إلى الشوارع، لم يتظاهر أحد، استقبلها بصمت مطبق، هنا أمر الحاكم وزرائه بإلغاء الجرعة وتخفيض الأسعار، حين سألوه باستغراب عن السبب، قال بأن الشعب في المرتين السابقتين عبر عن غضبه بالصياح، في المرة الثالثة كان الصمت مقدمة لثورة تطبخ في أعماق الناس.
في سياسة الأنظمة القمعية يحدث للشعب الأمرين: الضرب والتنكيل، وتثبيت الجرعة، هذا ما كان يحدث في عهد عبدالله صالح على سبيل المثال، وبالملاحظة يمكن اعتبار "الجرعة السعرية/ ارتفاع الأسعار" مدخلًا للثورات ضد الأنظمة كما في حالة الرئيس اليمني الراحل، تراكمت الجرع وفي كل مرة يتعلم الشعب طريقة جديدة للنضال، يخرج للشوارع غير مكتف بالصياح ضد غلاء المعيشة، بل يجتر أسباب أخرى للتعبير عن القهر والكبت والغضب الذي يجعل من الأسعار فتيلًا خلفه قنبلة مليئة بأسباب رفضه لسياسة النظام. ليرفع المتظاهرون رفضهم للتوريث ولاتفاقيات بيع الغاز وللمدة الزمنية الطويلة التي نصبت صالح على رأس السلطة، لتكون مدة رئاسته في العهد الجمهوري أطول من مدة ثلاث أئمة في عهد ملكي كان يصفه صالح نفسه بـ "الكهنوتي البغيض".
بعد الثورة وتنصيب عبد ربه رئيسًا لليمن وتشكيل حكومة وفاق، استغلت مليشيا الحوثي "جرعة سعرية" كمدخل لتنفيذ أسوأ انقلاب دموي شهدته البلاد، استولت على كل شيء، وتفشى القتل والجوع، نصبت المليشيا نفسها كسلطة تتحكم في كل شاردة وواردة، وبدل أن تزيح "الألف" من المشتقات النفطية والذي وضعته حكومة الوفاق، ارتفعت الأسعار إلى الضعف.
الحرب ليس كالسلم.. والناس صامتون ضد الغلاء الفاحش.. القابعون تحت سلطة الحوثي خائفون، ومن يقعون في المناطق المحررة التي تسيطر عليها الشرعية لا يتكلمون، هم منشغلون بمشاكل شتى، من بينها التحرير، وبعض العراقيل التي جلبها "الأخ الكبير"، غير أن الأسوأ من ذلك هو الانصراف للجدال حول أشياء نبدو فيها بعيدين بعد الشمس عن واقعنا في هذه الفترة، كأن نتحدث عن العلمانية في الوقت الذي يهوي فيه الريال إلى الحضيض ويرتفع الدولار إلى السماء.
لقد ارتفع كل شيء.. المواد الغذائية، مستلزمات الأطفال، مواد البناء، المشتقات النفطية.. ولم تكلف الشرعية نفسها باجتماع عابر يناقش الوضع المعيشي للمواطن البسيط، أما سلطة المليشيا فقد ضاعفت الوضع المعيشي سوءًا في المناطق المركزية التي تسيطر عليها، مثل صنعاء، ومنعت التعامل بالعملة النقدية الجديدة.
قبل أيام قرأت منشورًا لمدير شركة التجارة الداخلية في الجنوب، إبان رئاسة علي ناصر محمد، قد يكون ما كتبه مبالغًا به، لكن من حيث المبدأ عمل مذهل يجب أن يتعلم منه المسئولين، ومما ذكره الرجل "أنهم تلقوا برقية تأمرهم بإضافة 25 فلس إلى علبة الدانو "لبن للأطفال" فتم "إيقاف بيع اللبن وإرسال برقية فورية إلى الرئيس علي ناصر محمد لمعالجة الموضوع كي لا يتحمل الطفل اليمني هذا المبلغ الزهيد، وفي تمام الساعة العاشرة استلمنا برقية الرئيس موجهة إلى كل المحافظات ببيع اللبن بنفس السعر السابق".
خلال الأسبوعين الماضيين، زاد كيس الدقيق قرابة الثلاثة ألف ريال.
ومنذ بداية الحرب تقفز أسعار اللبن والحفاظات دون توقف، كانت الحفاظات قبل الحرب بقليل بـ 1800 ريال، بالأمس وصلت إلى 4200 ريال.
الطفل يتحمل، والكبير يتحمل، الموظف وغير الموظف، المدينة مثل الريف.
الناس صامتون، والصمت دليل ثورة تغلي في الأعماق، ولكن كيف نثور عندما تتحاور البنادق والرشاشات؟
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس