"للأفكار أجنحة"..! هل استقراءها الفيلسوف أبن رشد قبل حرق كتبه، أم رددتها شفتيه والنيران تلتهمها بنهم؟! ..
لا أعلم أن كانت ستبقى عبارته على حالها، لو علم باستمرار مجازر الجماعات المتطرفة التي تذوقها في عصره حتى الآن ! أم سيغيرها بحبر دواته: "تملك الأفكار أسلحة إن لم ينحني لها معارضيها"!!..
لا تختلف الجماعات المتطرفة في طريقة فرض أفكارها، الوجوه الميتة والصدمة المروعة، التي تضرب بها المجتمعات لتصيبها بشلل الخنوع. وقد أجبرتنا ميليشيا الحوثي على إعادة مشاهدة المسلسل المتكرر لفكرة نقاء سلالة واحقيتها في الحكم المستندة بالتأييد الإلهي..!!
امتلكت فكرة الإمامة وحقها الإلهي المقدس وقود بشري حي من المؤمنين بها على مر تاريخ اليمن، مكنتها من ارتداء درعها اللامعة والوقوف على تلة آمنة تشاهد محارقها على مر مئات السنين ..
تمددت الفكرة، أو تقلصت بحجم وعي وقوة معارضها، الذي لم يستطع للأسف القضاء على منبعها عبر مئات السنين، ربما لإحساسه بأن لا ضير من بقاء الأفكار في رؤوس أصحابها إن جنحوا للسلم!..
لكن الفكرة السلالية استمرت في الحياة لفترة أطول من المتوقع. ربما كان استخدام المقاتلين الذين لا ينتموا فعليا لسلالتها هو السبب في مقاومتها، فلم يكن السلالي يوماً مقاتلا قدر كونه منظراً، وقائد مخطط للحرب بعيداً عن المعارك..
استقبل اليمني قبل ألف عام السلالة الهاشمية حباً في دينه وفي رسوله، لكن ثمن ذلك الحب دفع مضاعفا بعدد الحروب المتتابعة لتثبيت دعائم تلك الفكرة المشوهة عبر التاريخ، لا يكاد اليمني يتنفس الصعداء حتى يعود لمحرقة جديدة، ولنفس الأسباب..
لكن المراقب لمأساة الحرب الاخيرة يلاحظ اضطرار الهاشميين أصحاب الفكر السلالي للمشاركة الفعلية فيها: حملوا السلاح وخاضوا المعارك بجانب المؤمن بفكرهم وشريكهم في المصالح، تجد أسماء وصور أطفالهم تملأ صفحاتهم الإلكترونية وشوارع المدن التي لازالت تحت سيطرتهم !!..
حملوا السلاح بعد تنبههم المتأخر لخفوت الزخم المحموم لفكرة ولايتهم، سواء في المناطق الحاضنة لهم عبر مئات السنين، أم مناطق سيطرتهم، بعد أن خدعة نشوة الانتصارات الأولى، حتى وصل الأمر لمنشدهم أن ينادي لنصرتهم:
يا القبايل يا الجيوش الحميرية
النكف ما عاد للجلسة مجالي
المنادي بالسواحل ذا دويّة
وابن بدر الدين نادى يا رجالي
جات ضربات الرجال الحيدرية
جات فزعات المعارك والقتالي
وانتهى الزامل بوعيد الفناء للجميع إن لزم الأمر:
سيدي لأمرك نزلنا الجرهدية
وللحديدة يا يمن شدْ الرحالي
والله ان تبقى الولاية هاشمية
دونها نفنى ونبذل كل غالي ..
ألقى السلاليون بأنفسهم وفلذات أكبادهم في أتون هولوكوست لا رحمة فيه، بعد أن توحشت فكرة السلالة المنزهة وبدأت بالتهام نفسها حين لم تجد ما تلتهمه وقد أيقنت أنها حربها الأخيرة.
أدركوا اختلاف الزمن، حين نقلت الصورة الحية الأحداث، وثقت مجازرهم الجديدة بعد تجاهل التاريخ لمجازرهم القديمة أو تدوينها على استحياء. سجل اليمني الاستخفاف العابث بمعاناة الأرض وساكنيها وقد حسم أمره برفض ربط حجر على بطنه، وهو يرى قصور الحكام الجدد واذرعهم تنبت على الأرض كفطر مسموم. صدم بمشاهدة كذبة التعايش الديني السمح للإمامة، وقد احرقت وفجرت مساجده، وأطفأت أصوات التسابيح فيها ..
أنها الحرب الأخيرة فعلا، ليست السلالة وحدها من أدرك ذلك، الجميع مدرك بأن لا عودة لذلك الفكر، سواء لسلالة أم لجماعة دينية متطرفة. فقد انتهى عهد تجارة الأديان وتغليف الباطل بها. يدرك الطفل خطورة النار بعد لسعة صغيرة منها، فكيف بمن اُشعلت الحرب في تاريخه، والحق بحرب ثقيلة أربع سنوات..؟!
أتساءل بعد كل الفوضى والدمار الذي لحق باليمن: ألم يعد هناك بقية عقلاء من أصحاب هذا الفكر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ مجرد محاولة صغيرة للكف عن ملاحقة الزوامل، ومراجعة أنفسهم والنظر لليمن قبل هذه الحرب!!..
لم تكن الصورة بهذا السواد قبل أن يرفع الجار والصديق والموظف المجاور لك سلاحه على الجميع، في لحظة جنون، وقد استولت عليه الفكرة المستحيلة وأنعشت أوهامه لماض لا رجعة له!! ..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني