مرت فترة طويلة منذ انقطع "منصور" عن الحارة، وكأنه كان في حياة سابقة لا تمت لي بصلة مطلقاً.
منصور لمن لا يعرفه رجل أربعيني يسكن حارتنا في غرفة صغيرة تحت سلالم عمارة ما، تطوع أحد المجهولين باستئجارها له. لم يكن الرجل مؤذيا كغالبية من يعانون من الاكتئاب، لكن أهل الحارة أطلقوا عليه لقب المجنون كالعادة حين تواجههم معضلة عصية على الفهم ..
يكتفي بالجلوس على ناصية أحد الشوارع الفرعية، يحدث نفسه بتمتمات مبهمة قبل أن يبصقها على الرصيف. تسللت يوماً مقتربة منه لفك شفرة ما يقول فاستنتجت أن مجملها سياسي، لا وجود لحبيبة غادرة أو خسارة مفجعة بين ثناياها. البعض من السكان يقسم بإيمان مغلظة بأنه جاسوس يرصد تحركات العابرين لينقلها لجهة أمنية...! على الرغم من عدم امتلاك الحارة لسر خطير يدعو أحد للتجسس عليها، عدى نزوات مراهقيها بالطبع.
متى اختفى منصور؟! آخر ما اتذكره منه لمحة خاطفة في ذلك النهار الذي تلى الضربات الأولى على مدينة صنعاء، والمتدافعون يتجاوزن مكان جلوسه المعتاد ليلقوا نظرة على آثار تلك الضربات..
الجمت الصدمة الجميع، رغم تباين الآراء حول ما يحدث؛ بين مؤيد يهتف سراً خوفاً من وشاية "شكرا سلمان"؛ وبين من أوجعته النيران وهزت كيان طموح تمنى التهام كل شيء وهو يأن: "تباً سلمان"..!
البعض كان يدرك بأن هناك دين مستحق لقوات التحالف سوف يطالب اليمن بدفعه، لكنه اختار أن يقضي على الشر القريب والأخطر حتى يأتي وقت السداد. وقد قدّر أكثر المتشائمون حجم الدين بولاء ملثم تعودنا عليه من بعض السياسيين أو شيوخ القبائل..
وآخر كان يحمل من البراءة ما جعله يعتقد أن هدف القضاء على شر أعظم كان يوجب على الجميع المساعدة، فالشر سينال المنطقة بأكملها ولن يستثني أحد ..
وحده منصور (مجنون حارتنا) من اختلفت ردة فعله عن الجميع، حين توقفت همهماته على غير عادته، لينتقل إلى غناء موال طربي ليس في وقته أو محله، وقد أزاح عن وجهه ملامح الحزن والبؤس اللذين كانا ملتصقين به. أي عشق كان يبحث عنه وفي مثل ذلك الوقت، لا وقت لهذيانه في تلك الحالة المضطربة التي أصابت الجميع بلا استثناء..
استمرت تلك المواويل عدة ليالٍ قبل أن يغادر صاحبها الحارة، تاركا صداها تحت سلالم العمارة التي كانت تؤويه، واستمرت بزيارتي بوضوح أيام طويلة قبل أن تبدأ بالخفوت وقد غدت الأيام، التي وعدنا بها لانتهاء الحرب، أشهر، وصمتت تدريجيًا مع مرور السنوات!! ..
ومازالت الحرب ماضية بلا إشارات تنبئ بزوال قريب. لم يعد السكان يبحثون عن آثار تلك الضربات، فلا جديد تندهش له، أو يجعلك تتوجع من أجله. حتى الانتصارات التي تدق بابك بين الحين والآخر تتبدد وأنت تشعر بأنك في معركة لا تخصك.
الجغرافيا فقط هي من جعلتك تغرق في مستنقعها. كيف تسعد بامتلاكك نشاب لا سهم له؟! وكيف تحرك جنودك الملتصقين بلوح شطرنج مهترئ ولا يحق لهم قول "كش ملك"..!!
مع مرور الأيام يصبح الحديث عن أسباب نشوب الحرب مضحك، ساخرٌ لدرجة تجعلك تتمنى قتل نفسك بحد إحدى ضحكاتك. لمَ لا يكون مدمن للسجائر هو من أشعل فتيل الحرب وقد راقت له سحاباتها الداكنة ورائحتها العطنة ..
أين رحل منصور؟! بعض الجنون قد يكون مفيداً ليبعدك عن التحليلات التي تحجب عنك المسلمات الواضحة. حقيقة كجزيرة؛ لم تخلو أساطير جداتنا منها، ولم يمهلنا الوقت لتنفيذ أحلامنا المؤجلة عليها، حتى بدأت تختفي فجأة من الخرائط...!! لم أكن أعتقد أن للجزيرة سحرٌ يجعلها تتخفى كشبح عنا! ربما لم تختفي، بل طردنا من عليها بكل وقاحة، طردنا لأن وقت الدفع قد جاء أوانه، ونحن في أضعف حالاتنا، ولا نمتلك عمود فقري يثبتنا في موضعنا...!
ليس من السهل عليك الاعتراف بمدى الضعف الذي تملكك. شعورك بأنك أصبحت فريسه مؤذي للنفس أكثر من الحرب ذاتها ..
عدت للبحث في الخرائط مجددا، ليس عن جزيرتي المنهوبة، بل عن مكان أبتعد به عن الجنون المحيط بي، حتى وجدت صورة لمنصور أو لوجه قريب منه في الملامح. لا أنكر بأن قلبي تشبث وبشدة بأن قسمات منصور هي المتواجدة على شاشة هاتفي، وقد ترددت مواويله في جوفي مرة أخرى وأنا أتأمل وقفته الثابتة على إحدى الجبهات بابتسامة قوية وبندقية..
لماذا اتهمنا منصور بالجنون؟
لعله كان أكثرنا عقلا، في زمن رقص طويلاً على دقات مجنونة، واختار ألا ينهزم حين واتته الفرصة. غنى وهو يتوجه لإعادة ترتيب الخرائط التي تبعثرنا حولها، تاركاً حساباتنا واتهاماتنا خلف ظهره..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني