سجّلت مدينة وهران الجزائرية اسمها في تاريخ ألعاب البحر المتوسط، بتنظيمها أحد أجمل حفلات الافتتاح، وسط حضور شخصيات ثقيلة رافقت الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أبرزها ضيف شرف الدورة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني ونائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي.
وتتجاوز هذه الدورة بالنسبة للسلطات الجزائرية جانبها الرياضي، إلى رهانات سياسية ودبلوماسية أكبر، ترمي لإعادة الجزائر إلى قلب الأحداث الدولية.
"وهران الباهية"، كما يلقبها سكانها، ازدادت بهاء السبت، بتلك الألوان الجميلة المرسومة في سمائها، بمناسبة افتتاح ألعاب البحر المتوسط، وازدادت صخبا وهي المدينة التي لا تنام، بكل الطبوع الموسيقية الأصيلة فيها، فهي مهد موسيقى “الراي” وعاصمة الفن البدوي ومهبط كل الفنانين الباحثين عن الشهرة، كما ازدادت حنينا لماضيها المشرق حضارة ومقاومة، عبر مختلف العصور والأزمنة.
هذا ما أراد منظمو الحفل قصّه من خلال سيناريو الحفل الذي رسم 20 لوحة فنية تجسد مختلف حقبات المدينة والجزائر عموما مع إبراز عمق تأثير حضارات المتوسط عليها، أبدع في رسمها نحو 800 فنان وراقص على بساط ملعب المدينة الجديد.
وفي سماء الملعب، كان الإمتاع البصري يشد الرؤوس إلى أعلى، عبر عروض للألعاب النارية بألوان الراية الجزائرية الخضراء والحمراء والبيضاء، تقطعها رسوم سماوية لطائرات درون مضيئة شكلت شعار ألعاب المتوسط ورموز مختلف الرياضات المعتمدة فيها.
وأدى في الختام، المطرب التونسي لطفي بوشناق ودنيا الجزائرية وفرقة “راينا راي” الشهيرة، أغان تراثية وأخرى للمناسبة عزفت ألحانها فرقة أوركسترا مشكلة من مائة موسيقي، بقيادة المايسترو سليم دادا (وزير سابق)، الذي يرأس لجنة حفلي افتتاح واختتام الألعاب.
وخلال مرور وفود البلدان المشاركة، تجاوب الجمهور الجزائري كعادته مع الراية الفلسطينية التي كان يحملها وفد صغير لكن حضوره شديد الرمزية للجزائريين. كما شدّ مرور الوفد المغربي الانتباه، فقد هتف له الجزائريون بحرارة “خاوة خاوة”، كدليل على أن خلافات السياسة لا يمكنها أبدا أن تزيل الشعور الوجداني بالأخوة بين الشعبين.
كما صفق الجمهور طويلا لوفد بلاده الأكبر في التظاهرة والذي يعد أكثر من 500 رياضي في كل التخصصات الفردية والجماعية. وبالإجمال، مرّ على الجمهور حوالي 3400 رياضي من 26 دولة، منها 18 دولة أوروبية و5 إفريقية و3 آسيوية، تمثل المشاركين في الدورة التاسعة عشر لهذه الألعاب.
وفي تعليقها على الحفل، أشادت اللجنة الدولية لألعاب البحر الأبيض المتوسط بالعروض ووصفتها بالرائعة. وكتبت اللجنة الرسمية على فيسبوك: “أعطى حفل الافتتاح الرائع في الملعب الأولمبي في وهران إشارة انطلاق الدورة التاسعة عشرة لألعاب البحر الأبيض المتوسط”.
من جانبه، قال رئيس هذه الهيئة الإيطالي دافيدي تيزانو، في كلمته في حفل الافتتاح، إنه ممتن للجهود التي بذلتها الجزائر من أجل تنظيم رفيع المستوى للدورة المتوسطية.
وأضاف: “نحن ممتنون لاستقبال الشعب الجزائري وتعلقه بألعاب البحر الأبيض المتوسط. إن شعوب البحر الأبيض المتوسط سعداء بالعيش من جديد في أجواء بهجة الألعاب بعد فترة الوباء التي ضربت العالم وذلك في جو احتفالي من السلام والأخوة”.
وتزامنا مع الحفل، تفاعل الجزائريون بقوة على منصات التواصل مع العروض تارة بإبداء الإعجاب وتارة أخرى بالتعليقات الطريفة. وبدا أن هذه التظاهرة، قد أحيت مشاعر الانتماء والوطنية الجزائرية التي لوحظت في ابتهال الكثير من المعلقين لنجاح الحفل الذي يعني لهم تقديم صورة حسنة عن بلادهم.
كما ظهرت انتقادات قوية، لأطراف راهنت على فشل الجزائر في التنظيم، واعتبر البعض أن مثل هذه المواقف لا تفرق بين معارضة السلطة وبين كون مثل هذه التظاهرة تمثل الجزائر كدولة وشعب وينبغي الحرص على إنجاحها.
وفي الواقع، تخطى سعي الجزائر لإنجاح الدورة الثانية التي تنظمها لألعاب البحر المتوسط الجانب الرياضي، فالسلطات الرسمية لم تخف أن هدفها من وراء هذا التنظيم إعادة موضعة الجزائر على الساحة الدبلوماسية الدولية كبلد قادر على تنظيم تظاهرات كبرى بعد سنوات طويلة من الانسحاب.
وكان الرئيس الجزائري، قد اتهم أطرافا قبل شهرين بالسعي لسحب تنظيم الألعاب من الجزائر ومنحها لبلد آخر، وقال إنه وجه تعليمات قبل ذلك ليكون كل شيء جاهزا لاستقبال الضيوف.
وتأتي هذه الألعاب في ظرف إقليمي يتميز بالتوتر بين الجزائر وجيرانها، فعدا الأزمة المستمرة مع المغرب والتي تفاقمت إلى حد قطع العلاقات بين البلدين، تعرف العلاقات الجزائرية الإسبانية تصعيدا غير مسبوق أدى بالجزائر لتعليق اتفاقية الصداقة ووقف عمليات الاستيراد والتصدير مع هذا البلد والتلويح برفع أسعار الغاز، ناهيك عن الطابع غير المنتظم للعلاقات مع فرنسا التي تتحسن في فترات وتنتكس في أخرى.
لكن الجزائر رغم ذلك، فتحت لنفسها أبوابا دبلوماسية أخرى باتجاه دول أوروبية مثل إيطاليا التي نما التبادل التجاري معها لمستويات كبيرة، ودول عربية خاصة مع اعتزامها تنظيم القمة العربية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، فقد تحسنت علاقاتها مع السعودية ودول الخليج عموما خاصة قطر التي باتت تربطها بها مشاريع اقتصادية استراتيجية، وهو ما ظهر في تلبية أمير قطر لدعوة الحضور كضيف شرف للألعاب المتوسطية وهي الزيارة الثانية له في فترة قصيرة للجزائر.
(القدس العربي)