"إن اليمن لن تسترد كرامتها وعزتها، إلا يوم يوجد بينها عشرات من المناضلين على الأقل، يرضون بالجوع حتى الموت، وبالسجن حتى نهاية العمر، وبخراب البيوت حتى آخر حجر فيها، ويتقدمون إلى العمل الوطني على أساس النصر أو الموت".
...
النص أعلاه، للثائر والسياسي الوطني الأديب محمد محمود الزبيري، وكأن الزبيري كان يتنبأ بهذه اللحظة اليمنية المعاصرة التي نعيشها، اللحظة التي يفرض فيها على السياسي أن يقود النضال الوطني مخيرا بين الانتصار للوطن أو الموت من أجله، و هاهي اليمن تدمر بيوتها في كل مدينة وريف، وهاهم المناضلون مشردون وجائعون ومعتقلون.
في 1 أبريل من عام (1965م) أطلقت رصاصة إمامية على الزبيري، كان الشهيد على موعد مع إشهار مؤتمر خمر، المؤتمر الذي بذل الشهيد من أجل الاعداد له جهدا كبيرا، وكان من المفترض أن يعقد هذا المؤتمر في إبريل من نفس العام.
لقد تولّد لدى الزبيري شعور بالخطر على الجمهورية، وأكتشف مخطط الجناح الامامي داخل الجمهورية السبتمبرية، الذي يهدف للقضاء على النخبة السياسية المخلصة لقيم الجمهورية، وأدرك الزبيري أن الملكيين يسعون بدأب لإعادة الإمامة بثوب جمهوري.
قبل التحضير لمؤتمر خمر، أنشأ الزبيري حزبا سياسيا (1963م)، وكانت فكرة الحزب مبنية على تأطير أعضائه بنفس غير مذهبي، وظل مكرسا تاريخه لمحاربة النفس المذهبي والمناطقي، وهو ما ظهر جليا في أعماله الأدبية وخطاباته الجماهرية وتحركاته السياسية، وحتى طبيعة أدائه الرسمي إبان تولية منصب وزير المعارف.
لم تكن رصاصة الإمامة التي اخترقت جسد الزبيري، إلا محاولة اغتيال هذه الفكرة الوطنية اليمنية، وهي محاولة كانت تهدف أيضا حماية تغلغلهم في مؤسسات الجمهورية الوليدة، وكان الزبيري حجر عثرة في طريق ذلك الاحتلال الملكي لبنية الدولة.
كان الوعي السياسي الوطني لدى الزبيري سابقا لعمله السياسي لما قبل نشوء الجمهورية، ففي عام (1944) نشط الزبيري مع أحمد النعمان على تخليق الفكرة الوطنية اليمنية، واستطاع الرجلان الآتيان من ميول متباينة ومناطق مختلفة، تجاوز المذهبية (شافعي - زيدي) والمناطقية، وحتى فكرة الانفصال ذاتها، عندما قاما بتأسيس حزب الاحرار اليمنيين من عدن، وأستطاعا من خلال هذا الحزب وعبر صحيفة صوت اليمن، المساهمة في تفجر ثورة ال 26 من سبتمبر 1962م.
مع إدراك الزبيري لخطورة عودة الملكية من نافذة الجمهورية، أسس حزبا جديدا (1963)، وعمل من خلاله على الحشد لمؤتمر خمر، بهدف حماية الجمهورية، لكن عدة رصاصات إمامية أطلقت على جسده الوطني، قبل أن يحقق رغبته الجمهورية.
غادر جسد الزبيري الحياة، واستطاع الجناح الملكي داخل الجمهورية خلال العقود الثلاث الماضية التحكم بجسد الدولة، لكنهم لم يقدروا على اغتيال روحه الجمهورية التي ظلت حاضرة في جيل اليمن الجمهوري، ولم يسطعوا قتل فكره الوطني الذي ظل ثاويا في عقل اليمنيين.
ومع بداية شهر إبريل من كل عام، تحل ذكرى اغتيال الزبيري كدليل على بقاء فكره الوطني متجددا وغير قابل على الموت، وتأتي هذه المرة ذكرى الاغتيال بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام من انقلاب النسخة الثانية من الامامية على الدولة، وهي نسخة بدت أكثر قبحا من سابقتها، و من يعيد قراءة نص الزبيري الذي افتتحنا به هذا المقال، سيدرك كم كان الزبيري مصيبا، وكأنه يقول إن اليمن لن تتحرر من وباء الامامة إلا بعد أن تعيش كلها بدون استثناء، حقد السلالية وخبث الكهنوت الامامي.
لقد كانت جريمة الزبيري التي أغتيل من أجلها هي إيمانه بالشعب وحده وحقه بالحياة الكريمة، ويمكننا أن ننهي هذه المقالة بنص آخر للزبيري، يبين كم كان هذا الثائر الحر مسكونا بالجمهورية؛
"إن الحق هو حق هذا الشعب،
والدولة هي دولة الشعب،
والجمهورية هي جمهورية الشعب،
والعزة والكرامة هي عزة وكرامة هذا الشعب".
اقراء أيضاً
مطارح مأرب المنسية!!