في العام 2011 أسستُ صفحة على فيس بوك أسميتها "الوادي". خلال وقتٍ قصير كانت الصفحة ملاذاً لأشهر ناشطي الثورة، وكان يصعب متابعة كل ما ينشر فيها. مع نهاية العام كانت "الوادي" قد صارت منصة ديناميكية للقول السياسي والثوري.
مع مرور الأيام انخفضت مستويات الإثارة التي تقدمها السياسة وانتقلت الحياة العامة بمجملها إلى طور من السكون: الحوار، انتقال السلطة، كتابة الدستور، هكيلة القوات المسلحة، احتجاجات المؤسسات. بقيت الأحداث الجسيمة فقط هي القادرة على استعادة أثر السياسة: مقتل قائد سياسي، سيطرة جماعة الحوثي على معسكر للدولة، اقتحام تنظيم القاعدة لمدينة.
مرت سبعة أعوام على الحدث الأكثر تأثيراً في حياة اليمنيين منذ الثورة الأولى. تشظى مشروع الدولة، تفككت القيمة المركزية للثورة، ودخل اليمنيون في حقيقة "الشعوب اليمنية" من جهة والفرد اليمني من جهة أخرى. جنوباً يتصاعد خطاب شعبوي ينكر يمنيته، وشمالاً ثمة تمجيد منقطع النظير للحقيقة الهاشمية، وهي حقيقة فوق قومية وفوق بشرية. وبالموازاة ثمة صوت ضاج وفارغ عن الدولة الواحدة والحياة المشتركة.
في العامين الماضيين نشأت حركة سايبرية أطلقت على نفسها مسمى "أقيال"، وهي حركة غير واضحة الملامح تحتفي بكل ما له علاقة بتاريخ الإنسان اليمني السابق للعصر الإسلامي: لغته، خطه، ديانته، انفعالاته، حروبه، زيه، وخياله. في الأيام الماضية ذهبت إلى مطعم "باب اليمن" في اسطنبول وهناك رأيت، لأول مرة، الأشياء مكتوبة بخط المسند، وهو نظام للكتابة استخدمه اليمنيون قبل أربعة آلاف عام. وقبل أسبوعين أصدرت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة تقريراً تفصيلياً عن "حالة اليمن"، بلغ حجمه 430 صفحة، دشنته بجملة صادمة: بعد ثلاثة أعوام من النزاع يكاد اليمن، كدولة، أن يكون قد ولى عن الوجود.
في هذه الحالة المأساوية التي بلغها اليمن انهارت السياسة، وفقد كل ما يرتبط بها معناه أولاً ثم إغراءه ثانياً. ضمن الدوال التي فقدت إغراءها تأتي "الثورة" كأحد أبرز الخاسرين، والمقاومة كخاسر ثانٍ، والوحدة كخاسر ثالث. هذا العام شهدت ذكرى ثورة فبراير مستوى من التجاهل لم ألاحظه، شخصياً، من قبل. كما مر يوم 22 مايو، 2017، دون أن يثير أي قدر من الضجيج كأي22 من أي شهر آخر. المقاومة، أيضاً، فقدت طهارتها.
جنوباً، في عدن، خاضت المقاومة، قبل شهر، حرباً ضد نفسها بعد أن صارت جيوشاً موزعة على طرفين. أما في تعز، مدينة الثورة والمقاومة، فتحكي المعلومات عن جيش قوامه 42 ألف مقاتل. يقول الجيش، الذي كان مقاومة حتى الأمس، إنه يفتقر إلى السلاح. لكن أكثر ما يفتقر إليه ذلك الجيش هو التجانس والمعنى. لم تعد مقاومة تعز تثير ذلك القدر من الإبهار كما كانت تفعل قبل ثلاثة أعوام. مؤخراً التقيتُ المؤسس الأول لمقاومة تعز، حمود المخلافي، وتبادلنا كلمات قليلة. يعيش ذلك المحارب القدير وحيداً خارج بلده، ليس لديه ما يفعله ولا من يهاتفه. وفي مأرب، أول أسوار المقاومة، يتكدس الجنرالات ويجمعون المكاسب تاركين أفرادهم يخوضون حرباً مأساوية على جبلين. وما من شيء يثير السخرية مثل شعار الجيش في مأرب "قادمون يا صنعاء".
في أقاصي الشمالي، حيث القبيلة داخل تاريخها، فقدت حروب الحوثي معناها. لم تعد الزوامل تثير في مستمعيها ذلك الحماس الذي كان. غدر صالح بالحوثي، لكن غدر الأخير كان أكثر حسماً. دفعت جثة صالح القبائل إلى الوجل، وكشفت أمامهم المعنى الوحشي الذي يمكن أن ترسو عليه مثل هذه الحرب الهجينة. تيقن رجال القبائل أنها حرب بلا طريق، وأن كل الخطى فيها لا تقود إلى باب. لنقل إن الحرب تضمُر وتتآكل في جبال الشمال. هي أيضاً، لدى الجانب الآخر، تفقد طهارتها. فالمقاتل هناك يخوض حرباً بلا قائد، يحرر أرضاً وسرعان ما تملأها الفوضى، لا مستشفى ميداني للجرحى، ولا تفسير لما يراه من ظواهر مدمرة مثل وجود يافعين في قيادة الجيش، كما كشفنا في مقالات سابقة.
كل شيء فقد إبهاره: الثورة، الحرب، الدولة، الوحدة، المقاومة، الرئاسة، الإمامة، الزعامة، الشهادة، البطولة، الاستقلال، السيادة. إنها حرب، في نهاية المآل، باردة لا طريق لها. تملك الحرب عنصراً جيداً وآخر فاسداً، لكنها أفسدت نفسها في منتصف الطريق وتبادلت العناصر الجيدة والفاسدة الجلوس على الحافتين.
على الجانبين تحرك الجوع ووضع حداً لأحاديث النصر والهزيمة. تنتظر آلاف القرى أخبار الدقيق والسكر، لا أحاديث الشجاعة والاستشهاد. بالنسبة للجزء المسحوق من الشعب، وهو النصيب الأعظم، فالحرب والهزيمة سيان. إذ لا يوجد دليل واحد يقول إن الحياة تحت ظل الحوثيين في صنعاء هي أسوأ من الحياة تحت سلطة الدولة والتحالف العربي.
يسلك هادي سلوك صالح، وتسلك المجموعات المسلحة في الجنوب سلوك الحوثيين في الشمال، وتسلك المقاومة سلوك القبائل، ويسلك ساسة الدولة سلوك المرتزقة على الجانب الآخر، ويبيع الطرفان كتاب السيادة لأقوياء خارجيين. وإذا كانت إيران قد حصلت على الجبال فإن الإمارات قد حصدت البحار والجزر والمضايق. لا طهارة في هذه الحرب، لا معنى، لا طريق، وفي الختام: لا إبهار.
هذه الصورة واضحة، وتتضح أكثر. ثمة عزوف متزايد عن الانخراط في كل تلك السرديات العملاقة، ولم يعد هناك كثيرون يصدقون إن هادي معني بشرعيته السياسية، وأن التحالف العربي يجتهد لاستعادة الدولة، وأن الحرب اليمنية هي حرب ضد إيران. كما لم تعد القبائل تصدق حديث الحوثي عن حرب لأجل الوطن، أو أن دم صالح يستحق حرباً جديدة. لكن الأكثر بروزاً من كل هذا هو موقف الميلينيالس، أو الألفيين، وهم الذين ولدوا بعد العام 1980. تحظى صفحة "مواهب يمنية" بمتابعة لا نظير لها، كما يمكن لفنانة صغيرة بحجم "ماريا قحطان" أن ترج كل البلد أكثر من أي شيء آخر. يسلك الميلينيالس طريقاً آخر، ربما معتقدين أن الحرب ستقضي على نفسها بعد زمن وتذهب مثل كل الآفات، كما ذهبت الكوليرا.
يمكن ملاحظة جوع شديد للفن والإبداع، للإنجاز على المستوى الشخصي. لم يعد مقنعاً، بالنسبة للألفيين، انتظار أن يصنع أحدٌ لهم انتصاراً تاريخياً. هم ليسو جزءً من التاريخ. وقد توصلوا لاستنتاج بسيط، وهم يتابعون ما يجري في جنوب اليمن وشماله، يقول إن الانتصارات الكبيرة لا يعاد توزيعها على كل الناس بالعدل والقسطاس، وهي بهذه انتصارات فاسدة. فقد احتكرت مجموعة صغيرة من الشعبويين في الجنوب الحديث باسم النصر، وذهبت الرياح في الشمال إلى مجموعة دائرة قريبة من هادي ونائبه، وبرز في الشمال والجنوب قادة شعبويون يفتقرون للحد الأدنى من الكرامة والإلهام.
بالمقاييس الزمنية الحديثة يصبح هادي تاريخاً غابراً، كما أن جثة صالح سرعان ما نُظر إليها كومياء وهو ما دفع الألفيين إلى نسيانها بسرعة. الحرب الهاشمية، التي يخوضها الحوثي بوصفه هاشمياً، هي أيضاً حرب داخل التاريخ البائد، وليست حركة أقيال التي يتحمس لها قطاع من الألفيين بأكثر من محاولة مرتبكة للبحث عن معنى جديد خارج دائرة السرديات الكبرى المغشوشة.
ما إن تضع الحرب أوزارها فإن الناس ستهرع باحثة عن دار: للأوبرا، للسينما، للنشر. ثمة جوع للفن والابتكار على المستوى الفردي. فكرة العدالة الانتقالية التي تقترح تسوية التاريخ بين الضحية والجاني لم تعُد شاغلاً للعقل الألفي، فهي مسألة فضلاً عن كونها معقدة عملياً ونظرياً هي أيضاً حديثٌ في التاريخ الغابر الجدير بالنسيان.
تفقد أشياء كبرى معناها، وتنهار سرديات مركزية. لا يحدث ذلك في الفراغ المطلق، بل تنشأ السردية الشخصية في الفضاء ذاته، مزيحة العناصر الضخمة إلى الأطراف. بدلاً عن الدولة يحضر الفرد. الحكاية الكبيرة عجزت عن أن توفر أمكنة فردية، أرادت أن تكدس الناس كنسخة واحدة وهوية واحدة بلا ملامح فردية، فهُجرت.
فلم يعُد ملايين الفلسطينيين في الشتات معنيين كثيراً بصراع الهوية والتاريخ على أرضهم التي لم يروها قط، وذلك هو الطريق الذي يسلكه الشتات اليمني. بالنسبة للفلسطيني في نيوزيلاندا، كما هو الحال مع اليمني في ميتشغن، ثمة حكاية فردية هي ما يستحق العناء. في الداخل، في اليمن، يتضح أكثر أن ما يشغل الفرد أخيراً هو الخروج من السردية الكبيرة، من الحكاية العملاقة التي أصبحت رغم غزارتها بلا معنى. في العام ???? كانت هناك سردية واحدة واعدة وغزيرة، تحقق الكبرياء الوطنية والوجود الفردي، لكنها سرعان ما صارت شيئاً من الماضي. عند هذه الحقيقة الختامية تصبح الحرب، التي فقدت إبهارها أولاً ومعناها ثانياً، ضرباً من الجريمة أياً كانت الأعلام.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها