اشتعلت حرب عدن الأخيرة، وانتهت بهزيمة الطرفين، تاركة فرصة واسعة لادعاءات النصر. في جوهر تلك الحرب يسكن جمر مناطقي. بقيت الحكومة ومعسكراتها قائمة، بقي المجلس الانتقالي ومعكسراته. أما القتلى والجرحى فكانوا بالعشرات، ينتمي أغلبهم إلى محافظتي أبين والضالع. الوثائق الشخصية للقتلى شرحت المعركة، وكشفت طبيعتها البدائية.
في اللحظات تلك، وقد تنكرت الضالع في زي الاستقلاليين الأبطال ولبست أبين بزات الجيش المهيب، واصلت صفحة محافظ حضرموت، وهو جنرال كبير، متابعة تحركاته. كان يفتتح مدرسة ثانوية للفتيات في فوة على أطراف مدينة المكلا. بحسب المصادر المحلية، وكما هو مكتوب على لوحة جدار الأساس، فإن المدرسة تتألف من 18 فصلا مع مرافقها وبتمويل كامل من السلطة المحلية. في اليوم نفسه وضع الجنرال الباحسني، وهو يرتدي الزي المدني، حجر الأساس لبناء ستة فصول دراسية في مدرسة صلاح الدين في فوة. مرة أخرى: بتمويل محلي من قبل سلطات المحافظة.
في العام 1994 فر الجنرال البحسني من حضرموت إلى السعودية. خسر جيش "جهمورية اليمن الديموقراطية الشعبية" المعركة، لجملة أسباب منها الكثافة العددية الرهيبة للجيش القادم من الشمال وانضمام أغلب قبائل الجنوب إلى ذلك الجيش، فضلا عن نجاح صالح وحلفائه في صناعة بعد ديني لحرب يديرها من الطرف الآخر قادة ماركسيون. في السعودية عمل الجنرال البحسني في محطة بنزين لفترة من الزمن، ولم يبع زيه العسكري أو شرفه لأحد كما فعل المنتصرون والمهزومون على السواء. يبدي محافظ حضرموت، البحسني، ديناميكية لافتة بأقل قدر من الضجيج، وبلا حديث في السياسة.
لو تحدث كثيرا في السياسة ستخف حركته على الأرض وستتعثر مهمته الأساسية. لديه تعريف واضح للرجل الجاد، وهو يستخدمه في بياناته وفي حديثه إلى المجموعات الوظيفية التي يلتقيها. خلال الأسبوعين الماضيين شملت تحركاته كل القطاعات تقريبا: الصحة، الشرطة، الجيش، المشافي، المراكز الخيرية، القضاء، التعليم، الصناعة، النقل وغيرها. كما وضع أحجار أساس لمشاريع مياه، كهرباء، تعليم، وصحة ودشن افتتاح قناة تلفزيونية محلية. التقى موفدين قبليين ووزع شهادات تكريم، والتقى مسؤولين عسكريين إماراتيين وسعوديين، واصطحب فرقا طبية خليجية إلى أماكن الاحتياج. مواضيع أخرى وقعت في دائرة حركته: زار إذاعة حضرموت، زار موقع إنشاءات النصب التذكاري لشهداء حضرموت، قناة حضرموت المحلية، قام بتغيير اسم مطار المكلا إلى مطار الريان الدولي واعتمد له ختما، وقع عقودا لبناء جسور وتوسيع شوارع وشبكات مياه، وأصدر توجيها إلى السلطات المحلية ورد فيه: لا تتهاونوا مع المستثمرين غير الجادين.
تقول صفحة المحافظ إن هذه الحركة كلها حدثت في الـ 14 يوما الماضية. ثمة قيمة مشتركة في كل تلك الأخبار: إصرار المحافظ على ترك أثر يقول إن السلطات المحلية هي من ينفق على تلك المشاريع وأنها ليست في قبضة أحد. وبخلاف الخطاب المبتذل القادم من عدن ومأرب، حيث تصبح حتى الجملة النحوية برعاية التحالف، فإنك لن تجد صورا وأعلاما وأناشيد لدول التحالف العربي في صفحة البحسني. ترصد الصفحة لقاءات المحافظ بقيادات التحالف، وتقدم خبرا عن الشراكة والصداقة. ثمة، في صفحة الجنرال البحسني، تأسيس للغة ندية، مستقلة، ومعتمدة على ذاتها.
ما أشرتُ إليه في الأعلى لافت ومثير. نحن بإزاء أنوار قادمة من أقصى الشرق. في العاشر من فبراير الماضي أصدر المحافظ بيانا قال فيه إن يوم الـ 11 من فبراير يوم عمل. كان بيانا محايدا بالمعنى السياسي، لم يقل أكثر من أنه يوم عمل. لم أعثر على خبر واحد، على كثرة ما تنشره صفحة المحافظ، يتحدث عن المؤامرات الخارجية والأعداء. الأعداء الذين طلب المحافظ من فريقه محاصرتهم هم "المستثمرون غير الجادين"، وفقا لكلمات المحافظ نفسه. في يوم الثورة، ويوم العمل، احتفل شباب فبراير في قاعة كبيرة في المكلا، مجدوا ثورتهم وأطلقوا الأناشيد، وعادوا. تنجز حضرموت سلامها الخاص، لا صدام ولا استيهامات. وبذكاء تستفيد من كل التناقضات الحاصلة، فهي تعرف ماذا تريد.
عندما انفجرت النسخة الثانية من حرب يناير أصدر بن حبريش، رئيس مؤتمر حضرموت الجامع، بيانا يطالب فيه المتصارعين بالرجوع إلى العقل. شيئا فشيئا تصبح الصورة القادمة من غرب الجنوب، من عدن وحزام البادية المحيط بها، صورة غير عاقلة. كما يمتلك الشرق، حضرموت على وجه الخصوص، شخصيته ويستعيد ذاته. إذا استمرت عجلة حضرموت بالدوران بهذه الديناميكية اللافتة فستغير المعادلة السياسية في كل الجنوب. القليل من السياسة، القليل من الأوهام، النأي بالنفس عن خوض صراعات ذات طابع دولي، الكثير من الاقتصاد، التركيز على البنية التحتية، إنعاش المجتمع حتى يصبح فاعلا، وكبح جماح "غير الجادين"، وضرب الفساد في وقت مبكر، ذلك ما يصنع فارقا، ويجعل الفارق يتسع مع الأيام.
في الربيع الماضي كتبت مقالة بعنوان "طريق حضرموت". كانت المقالة تتعلق بمؤتمر حضرموت الجامع، المؤتمر الذي حضره ثلاثة آلاف شخص وصيغت مقرراته بطريقة متمهلة وواعية لا تحارب التاريخ ولا تقفز على العالم ولا تنكر ذاتها. الآن، بعد عام تقريبا، أقف أمام مشهد نادر الحدوث في بلد مزقته الحروب. في السابع عشر من فبراير الحالي شهدت المكلا، قاعة الملكة، احتفالية جرى فيها تكريم 49 طالبا وطالبة ينتمون إلى محافظة شبوة. حصل الطلاب، جميعهم، على درجة البكالوريوس من جامعة حضرموت ووقفوا في قاعة كبيرة، تتوسطهم الطالبات الخريجات، وهم يرتدون الأرواب الحمراء وقبعات التخرج الكلاسيكية. كان محافظ حضرموت حاضرا، وكذلك محافظ شبوة. كلما ابتعدت عن حضرموت ظهرت اللغة السياسية، وهكذا كان خطاب محافظ شبوة ذا طبيعة سياسية. وعد الخريجين بقرب موعد إعلان "إقليم حضرموت"، قائلا، بكبرياء وبهجة، إن شبوة ستكون جزءً منه. في ظروف معقدة وصعبة تمد جامعة حضرموت جارتها "شبوة" بالخريجين. ذلك هو طريق حضرموت. إذا وجدت حضرموت نفسها مع الأيام وقد أصبحت في المقدمة فإن أقدارها ستكون ضيقة، ولن يكون أمامها سوى خيار واحد: أن تقود.
الأخبار المنشورة من حضرموت، كما الشهادات المدونة، تؤكد أن قوات النخبة الحضرمية استطاعت احتواء المسألة الأمنية. مؤخراً، وهذا أمر غاية في الأهمية، انضمت النخبة الحضرمية إلى كشوفات الجيش الوطني وأصبحت رواتبها مسؤولية حكومية. أيضاً توازن الصراع الإماراتي ـ السعودي على حضرموت، ويبدو أنها قسمت بطريقة مرضية للطرفين. ففي حين تسيطر السعودية على الجزء الأوسع من حضرموت، الوادي، حصرت الإمارات نفسها في الساحل، في مناطق النفوذ التي تريدها.
عسكريا يقع جزء من حضرموت في نطاق المنطقة العسكرية الأولى، وجزء آخر في نطاق المنطقة الثانية. تتحرك السلطات المحلية حتى الآن بطريقة مدروسة، كما يبدو، واعية بالتناقضات والصراعات الكامنة. إنه طريق عسير. ربما أدرك البحسني، بحساسيته العسكرية، أنه يتحرك في ساحة تحكمها الانفعالات أكثر من الاستراتيجيات، وأنه سيكون بمنأى عن الغدر والخديعة إذا ترك كل السياسة جانبا وانصهر بمواطنيه. ثمة نار تعمل في حضرموت، توقد كل شيء على مهل. وإذا لم يطفئها العربُ فإنها ستصنع أكواما كبيرة من الطوب، وسيبني منه كل اليمنيين.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها