ربما شكلت الاحتقانات، وبؤر الصراع المتصاعدة، وتباين وجهات النظر في كيفية إدارة العهد العالمي الجديد فرصة تاريخية لتحويل كل هذه السيئات إلى حسنات، لكن هذه الفرصة الافتراضية لا يمكنها أن تحل محل المتاهة القائمة إلا بإرادة سياسية واعية يتبناها الكبار ممن يديرون اللعبة الخطيرة التي تتمدد بظلالها الكئيبة في عالمنا المعاصر.
ولسنا هنا بصدد استعادة الأسباب العميقة التي أفضت إلى المشهد التراجيدي الراهن، ولا نود الخوض فيما استهلكته الأقلام والرؤى من مقاربات وتحليلات أشارت بالبنان لتلك الأسباب، باعتبار أن كل ما جرى بالترافق مع نهاية الحرب الباردة، والسقوط الحر للاتحاد السوفييتي، ومعسكر تحالفه الواسع، شكّل المقدمة الكبرى لعالم ما بعد الحرب الباردة التي توهمت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة عالماً جديداً بمسحة مستقبلية ينتمي للنموذج الأمريكي وينفي ماعداه.
لقد تداعت تلك المقاربة الأمريكية من خلال سلسلة من الأدبيات الأيديولوجية، وأشهرها كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون بعنوان (الفرصة السانحة) الذي دعا فيه إلى أن تشمر الولايات المتحدة عن ساعد الجد، لتكون النموذج الأمثل في مؤسسات القوة، والمال، والأبحاث العلمية، والتربية، والتعليم.
يومئذ نسي نيكسون، أو تناسى، أن العالم الكبير ليس مساحة خالية من الإرادات، والرؤى، والنظرات، والأمم النابعة من تواريخ وتقاليد مقبلة، ولم يضع في الاعتبار العمق الآسيوي بامتداداته الروسية - الصينية - الهندية- الإندونيسية- الماليزية، وبالقدر نفسه لم يلتفت للفتوة التنموية الخاصة في بعض بلدان الضاحية الجنوبية للولايات المتحدة، خاصة البرازيل والأرجنتين، ولَم يرَ في أوروبا التاريخية الغربية سوى الامتداد الاعتيادي للنموذج الأمريكي.
بعد مقاربة نيكسون قدم المفكر الحصيف فوكوياما رؤيته الأمريكية حول (نهاية التاريخ)، معيداً نظريات الأحلام الألفية الفاضلة، ضمن قالب (هيجلي) ميتافيزيقي، لكنه سرعان ما تراجع عن نظريته تلك، معتداً بحكمة المثقف الذي يقبل بالتحول، ولا يقيم في يقينه الخاص إن وجد سبباً للتراجع.
ثم بادر عالم التاريخ والإنثربولوجيا (هنتنجتون) بترشيحه المستقبلي لصراع الحضارات والأديان، ممهداً لنظرية الفوضى الخلاقة اليمينية ذات النفس الأيديولوجي الديني المسيحاني، فنال حظاً وافراً عند عتاة التغيير للعالم بنظرية الصدمة، وسيناريوهات الرعب، فكانت أحداث سبتمبر عتبة الانطلاق نحو استعادة الريجانية السياسية واستتباعاتها المؤلمة على الولايات المتحدة والعالم.
وفي هذه اللحظة التاريخية من عام البؤس والشقاء الماثل يمكننا إدراك فدح ما آلت إليه الأمور، بقدر إدراك أن هنالك حقاً فرصة جديدة سانحة، مغايرة لتلك التي افترضها الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون، فالفرصة الراهنة تحمل عناوين إنسانية شاملة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أن يصار إلى عهد عالمي جديد ينطلق من مفهوم الشراكة العالمية المقرونة بتعددية الملاعب والنظرات والتجارب، وأن يتم النظر في القوانين الناظمة للمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة الخارجة من رحم الحربين العالميتين المدمرتين اللتين أفرزتا مفهوم الشراكة العالمية من خلال المنتصرين والمهزومين، وهذا المفهوم لم يعد له مكان في عالم اليوم الذي يقضي بأن يكون الجميع منتصرين، أو مهزومين، ولعل شاهد الجنون الكوري الشمالي خير مثال على ما نذهب إليه، كما أن تنقل الحروب الإقليمية تنذر بتمددات حارقة، وستنجب أمراء حربها الكونيين الذين سيتكفلون بتدمير القيم التوازنية التي يرتضيها العالم السوي، ويسعى المجرمون إلى تدميرها بقوة دفع الشر المستطير.
عناوين المنطق العاقل في التحول نحو عالم جديد يؤمن بأن البقاء والازدهار يشمل أيضاً نظام النقد والتجارة الدوليين، والانسياب الحر للقيم المادية والروحية دونما عوائق إجرائية تكرس للكبار ميزات مطلقة، وتحرم الصغار حتى من الميزات النسبية، كما قال الرائي الكبير رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، وهو يتحدث عن تهافت مقولة الليبرالية الغربية، لكونها تؤمّن أفضليات الكبار في الشمال، وتحرم الصغار من أفضلياتهم في الجنوب، مشيراً على وجه أخص لظاهرة الهجرة من بلدان الجنوب الغنية بمواردها، الفقيرة بسبب الآليات الظالمة التي تحضر بسخاء التحالف بين الطغم المالية والعسكرية الطفيلية في بلدان الجنوب من جهة، وسدنة الاقتصاد الدولي الظالم في بلدان الليبراليات البرلمانية الحاضنة لهؤلاء، من جهة أخرى.
هذه التدابير وغيرها، تنطوي على إقرار ضمني بالقوانين العالمية الموضوعية المشمولة بالعولمة العابرة للبحار والأنهار والجبال، بل كامل الجغرافيا السيادية للعالم المعاصر، والمدخل لتغيير وجه الصورة المقلوبة رأساً على عقب يتلخص في تعميم هذه العولمة بكامل جوانبها الإيجابية، والتخلي الحر عن موروثات الحرب الباردة، وتمهيداتها التاريخية التي سحبت أنوف المتغطرسين لحروب عالمية مدمرة.
*الخليج الإماراتية
اقراء أيضاً
وعود النموذج الصومالي
الحسم الميداني في اليمن
الساحة اليمنية مجدداً