توقف المراقبون عند ما ورد على لسان رئيس "المجلس السياسي الأعلى في صنعاء" صالح الصماد من تهديد معلن، تمّ إبلاغه رسميا إلى معين شريم نائب المبعوث الأممي في اليمن. ومقتضى التهديد أن الحوثيين سيقطعون طرق الملاحة في البحر الأحمر إذا استمر تصعيد التحالف العربي باتجاه حصار مدينة الحديدة، التي تمثل المرفأ الحيوي الأساسي لليمن ولا تزال تحت سيطرة الحوثيين.
ولم يقتصر الأمر بهذا الشأن على تهديد الصماد؛ بل إن الناطق الرسمي باسم "أنصار الله" محمد عبد السلام توعد -عبر حسابه على تويتر- بالرد الحاسم على أي تحرك عسكري تقوم به قوات التحالف في هذا الاتجاه.
المعطيات الجغرافية
وقد جاء ذلك بعد إعلان التحالف فرضه إغلاقا مؤقتا لكافة المنافذ الجوية والبحرية والبرية التي تؤدي إلى اليمن، مع "مراعاة استمرار دخول وخروج طواقم الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وفق إجراءات قيادة قوات التحالف المحدثة". ويعني ذلك التهديد صراحة ضرب الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
وقد أوضح الصماد لنائب المبعوث الدولي أن هذه الخيارات الصعبة هي "خيارات إستراتيجية.. ولا عودة عنها"؛ فهل يلجأ الحوثيون إلى مثل هذه الخيارات الصعبة والخطيرة؟ وهل باستطاعتهم ذلك؟ وما هي أدواتهم؟ وما هي تداعيات مثل هذا القرار؟ وما هي دوافعهم للجوء إليه وهو الذي يشبه الانتحار ويذّكر بعبارة "عليّ وعلى أعدائي"؟
أولاً، إذا نفذ الحوثيون قرارهم -وهو قرار يائس بلا ريب- فهو لكونهم يشعرون بأنهم في وضع متأزم في ظل الحصار المطبق، فقد نُقل عن "الصماد" قوله "إنهم (أي دول التحالف) يُبحرون في مياهنا ببواخرهم وشعبنا يموت جوعاً ومرضاً". وإذن، فإن قرارهم يسعى للخروج من هذا اليأس.
وللإجابة عن الأسئلة الواردة أعلاه؛ يجب النظر أولاً إلى الجغرافيا، ثم إلى القدرة العسكرية، ومن ثم تداعيات هذا القرار في حال تنفيذه.
ففي الجغرافيا، يتجاوز طول السواحل اليمنية 1900 كلم وتطل بمعظمها على بحر العرب (السواحل الجنوبية)، أما السواحل الغربية التي يقارب طولها 600 كلم فهي تمتد من خليج عدن وتتجه شمالاً لتطل على البحر الأحمر. ويشكل مضيق باب المندب بوابة هذا البحر، وهو من جانب اليمن حيث "ذباب" و"المخا" ثم "الحديدة" التي يسيطر عليها الحوثيون.
يقارب عرض المضيق 25 كلم، وتعبره يومياً مئات السفن التجارية على اختلاف أحجامها. ويعتبر البحر الأحمر -وبالتالي باب المندب- شرياناً حيوياً للملاحة الدولية؛ فعلى شاطئه الشرقي تقع مرافئ اليمن وأهمها الحديدة، وشواطئ السعودية وأهمها جدّة، وصولاً إلى ميناء العقبة الرئة البحرية الوحيدة للأردن.
وعلى الشواطئ الغربية، تقع جيبوتي وإريتريا والسودان ومصر، حيث تعبر منها السفن إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس. إذن؛ فإن أهمية هذا المعبر البحري الدولي ليست شأنا خاصا بالسعودية على أهميته لها، بل شأناً دولياً.
والآن ماذا عن القدرات العسكرية، وما تسمح به الجغرافيا لتنفيذ تهديد الحوثيين، بتحويل البحر الأحمر إلى "ساحة حرب".
في العام الماضي؛ سمحت الجغرافيا والقدرات العسكرية للحوثيين باستهداف سفن وبوارج سعودية وإماراتية في البحر الأحمر؛ إذ أكد بيان للحوثيين صدر في يوليو/تموز 2017 استهدافهم حينها ميناء "المخا" بقارب مسيّر (زورق بدون رُبّان) محمل بالمتفجرات، اصطدم بالرصيف وأصاب إحدى السفن الراسية عنده.
وقد اعترفت "قوات التحالف" بوجود زوارق حربية للحوثيين تجوب البحر الأحمر؛ كما أعلنت هذه القوات في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إحباط "عملية عسكرية" وشيكة كانت تستهدف سفنها في تلك المنطقة.
القدرات العسكرية
وبالنسبة للقدرات العسكرية؛ هناك حديث عن تنامي الخطر الذي باتت تحتله القوة الصاروخية لدى مقاتلي "حركة أنصار الله" الحوثية، كمّاً ونوعاً.
حيث يؤكّد الحوثيون أن قدراتهم العسكرية مطورة محلية، مع عدم نفيهم الاستعانة بخبرات غيرهم أو استيراد التكنولوجيا من الخارج، ويقصدون به إيران. ومنها مثلا صواريخ "توتكا" و"سكود" و"بركان" و"زلزال" وغيرها، وقد وصلت هذه الصواريخ إلى عمق أراضي السعودية وعاصمتها الرياض.
وأكثر من ذلك؛ تمكن الحوثيون من تصنيع طائرات بدون طيار(DRONE) بمختلف الأحجام، وهي قادرة على تنفيذ مهمات استطلاع وتصوير، وهناك أخرى لحمل رؤوس متفجرة وصواريخ تنطلق بالتحكم من الأرض. هذا بالإضافة إلى مئات المدرعات والدبابات والمركبات.
وفيما يتعلق بالشأن البحري؛ يمتلك الحوثيون عشرات الزوارق البحرية الحديثة والقديمة التي تم تحديثها، بعد أن وضع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح يده على معظم سلاح البحرية اليمني ونقله إلى ميناء الحديدة، وضمنه زوارق إنزال وقطع بحرية لخفر السواحل وزوارق طوربيد.
وفي المقابل؛ لدى قوات التحالف قوات بحرية دفاعية متطورة، فالسعودية يحوي أسطولها الغربي المتمركز في جدّة أربع فرقاطات من طراز "المدينة" و"بدر"، وعشرات الزوارق الحربية من أنواع مختلفة، بينها دورية سريعة من طراز "ناجا" و"هالتر"، وزوارق هجومية من طراز "الصديق".
الإمارات كذلك تمتلك قوة بحرية قوية، تتضمن زوارق كبيرة من طراز "كراكب"، وزوارق هجومية صاروخية من طراز "بانياس" استقدمت بعضها إلى ميناء عدن الذي تسيطر عليه حالياً، ولا مجال للمقارنة بين القوة العسكرية لدى دول التحالف وما يملكه الحوثيون.
ولكن المسألة ليست منازلة في الميدان، إذ مرّ على الحرب العبثية أكثر من ألف يوم ولم تحقق قوات التحالف الحسم الذي تعد به كل يوم. وهذه القدرات العسكرية البحرية إذا استُعملت في البحر الأحمر لمواجهة الحوثيين فإنه سيتحول تلقائياً إلى ساحة حرب، أو يصبح غير آمنٍ بأي حال.
هل يستطيع الحوثيون -بما تتيحه لهم قدراتهم العسكرية وتسمح به الجغرافياـ تنفيذ تهديدهم بتعطيل الملاحة في البحر الأحمر؟ نعم، وذلك بجعل المضيق والبحر نفسه منطقة غير مستقرة للملاحة، وليس بمنع الملاحة مباشرة وإغلاق المضيق. لأن إغلاق المضيق -ولو لأيام معدودة- يعتبر خطاً أحمر بالنسبة للمجتمع الدولي.
ويرى كثير من المراقبين أن هذه التهديدات رسالة من الحوثيين للمجتمع الدولي وكل من يهمه الأمر، للتذكير بوجودهم وبمأساة اليمن الواقعة بسبب القصف الجوي والحصار. وليؤكدوا أن إقفال الرئة الوحيدة التي يتنفسون منها اليوم -وهي ميناء الحديدة- بعد المطار، هو أيضاً بالنسبة لهم خط أحمر.
وليقولوا إن ملايين الأشخاص مهددون بالموت والمرض إذا استمر تجاهل قضيتهم، ولم تؤخذ بمحمل الجدّ. لأن حماية الممرات المائية هي مسؤولية دولية بحسب القانون الدولي، ولا يحق لأي قوة أو دولة أن تغلقها في وجه أي طرف مهما كان.
القانون الدولي
يحدد قانون البحار مسؤولية وسلطة كل دولة فيما يتعلق بالمياه الدولية، وفي المياه الإقليمية. وبالنسبة للمضايق؛ فإن المياه الإقليمية للدول تنحسر إلى الحد الأدنى الذي يترك مجالاً ومجرى للمياه الدولية.
وإذن؛ فإن المياه الإقليمية في قانون البحار هي شأن إقليمي، أما المياه الدولية فهي شأن دولي، وهذا ينطبق قانونياً على فرض الحصار البحري من قِبل قوات التحالف على ميناء الحديدة.
ولذلك، فإن تنفيذ هذا التهديد من شأنه تدويل الحرب اليمنية، فبالإضافة إلى قانون البحار واتفاقيات جنيف ولاهاي، ومصالح الدول التي تقع على البحر الأحمر؛ هناك الدول التي أقامت قواعد عسكرية في منطقة القرن الأفريقي مثل أميركا وتركيا. وإذن؛ فالتداعيات -التي سيُنتجها تنفيذ التهديد- محلية وإقليمية ودولية في آن واحد.
وخلاصة القول، هي أن هذا التهديد -الذي أبلغ به الحوثيون الأمم المتحدة وتجاوز حدود التصريح الإعلامي- لا يزال في خانة الإنذار، لا سيما أنه سبقته تصريحات إعلامية تلوّح بمثل هذا الإجراء مستقبلاً.
إلا أنه من غير المستبعد أن يلجأ إليه الحوثيون بوصفه "خرطوشة أخيرة" من سلاحهم، للخروج من "الحلقة المقفلة" التي وصلت إليها الحرب، ولإخراج هذا الملف من أيدي السعودية وحلفائها إلى أيدي عشرات الدول التي ترى أن إجراء كهذا بات يهدد مصالحها وأمنها.
مضت على حرب اليمن قرابة ثلاث سنوات وهي تراوح مكانها؛ مع مزيد من القتل والتدمير والتهجير دون تحقيق أية إنجازات عسكرية تذكر لأي طرف، وبدت بغير أفق فتحولت "عاصفة الحزم" ثم "إعادة الأمل" إلى عاصفة دون أمل. فالفريقان منهكان لأن تكاليف الحرب بلغت عشرات المليارات، والخسائر البشرية لدى السعودية تجاوزت المئات بعد أن انتقلت الحرب إلى أراضيها.
والحوثيون استُنزفوا وهم يخوضون معركة صمود من أجل البقاء، والخاسر الأكبر هو الشعب اليمني بمختلف أطيافه. وإذا كانت الحرب قد تحولت إلى عملية "عض على الأصابع"؛ فليس هنالك مؤشر على أن أحد الفرقين سيصرخ مستسلماً.
ففي حين تمضي قوات التحالف في سياسة الهروب إلى الأمام، يعلن الحوثيون أنهم لن يستسلموا ولو بلغت الحرب عامها الرابع أو الخامس؛ فهل التهديد بتحويل البحر الأحمر إلى ساحة حرب سيعيد خلط الأوراق من جديد؟
وإذا لم يؤخذ التهديد الحوثي على محمل الجدّ؛ فهل سيحرك تنفيذُه العالمَ لعقد مؤتمر دولي بشأن اليمن يكون أول قراراته وقف العمليات العسكرية فيه، والبدء في البحث عن تصور لمستقبل هذا البلد الجريح، وإخراجه من غرفة العناية الفائقة؟ الذي يظهر هو أن هذا ما هدف إليه الحوثيون بتهديدهم المذكور.
*الجزيرة نت
اقراء أيضاً