الحرب اليمنية الجارية ستترك بصمتها في أطفال الحرب، وفي أبنائهم فيما بعد. يمكننا توقع آثارها ممتدة في الخمسين سنة القادمة. تعرض الأطفال لهذه الحرب على مستويات عديدة، فهم مقاتلون زجت بهم جماعة الحوثي وميليشيات صالح في معارك ضارية في الشمال والجنوب وعلى الحدود مع السعودية. كمحاربين تعرض الأطفال للإصابة، شاهدوا الجرحى، وقعوا في الأسر، شاهدوا المدن وهي تتعرض للقصف، واشتركوا في عمليات قتل، كما اشترك أطفال الحوثيين في عمليات تفجير المنازل، وفي متتاليات من السلب والنهب.
أطفال الحوثيين المقاتلون اشتركوا في تعذيب المعتقلين، وفي إعدامهم أيضاً، كما تقول معلومات محلية متكررة. وكضحايا شاهد الأطفال قصف المدن، الأشلاء والجثث، حرمتهم القذائف من النوم، جاعوا، تقطعت السبل بأسرهم، فقدوا الاتصال بجيرانهم وأصدقائهم، أبعدوا عن المدارس، خسروا أناساً يحبونهم... إلخ. صورة مركبة للطفل في اليمن: الضحية الخالصة، والمجرم الضحية.
يقوم الحوثيون حالياً بحملة واسعة لضم المزيد من طلبة المدارس إلى صفوف الميليشيات كمقاتلين. وهناك معلومات لم تتأكد بعد عن قيام الحوثيين بدفع أطفال "دار الأيتام"، الدار الشهيرة في صنعاء، إلى جبهات القتال. بعد أشهر، تزيد أو تقل، يصبح الطفل: قاتلاً، لصاً، مدمناً، جريحاً، أسيراً، مضطرباً نفسياً، أو مقتولاً. توزعت خريطة الإصابات التي يعاني منها أطفال الحرب، ولعل أخطرها هو انهيار الصحة النفسية لطفل يخوض ويلات واحدة من أشرس الحروب، ويشترك في القتل ويرى الجثث. يصبح هذا الطفل رجلاً معتلاً نفسياً، ينقل خبرته النفسية واضطراباته إلى أبنائه، وفي الغالب قد يعجز الرجل، الذي كان طفلاً محارباً، في إنجاز أسرة مستقرة جاهزة للإنجاب.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح موضوع الآثار النفسية للحروب مستقراً كموضوع علمي. وفي ألمانيا أنتجت أعمال كثيرة عن الآثار النفسية التي تركتها الحرب العالمية على الأطفال الذين ولدوا في زمن الحرب، وعلى أبنائهم فيما بعد. وهناك تقديرات تقول إن واحداً من كل ثلاثة من "أبناء أطفال الحرب" يزور طبيباً نفسياً؛ أي من الذين ولد آباؤهم في زمن الحرب، وشهدوا ويلاتها في سنواتهم الست الأولى. أما أطفال الحرب أنفسهم فيرزحون تحت وطأة الإحساس باللامعنى، بالقلق المستدام، الخوف من المجهول، الخوف من الإنجاب، من الغرباء، وحتى من الظلام والطائرات. الخارطة النفسية للرجال الذين كانوا أطفالاً في الحرب الثانية هي أكثر تعقيداً من أزمة أبنائهم بالطبع؛ فاثنان من كل ثلاثة يعانون من اضطرابات نفسية ويلجأون إلى الأطباء وفقاً لدراسات كثيرة استعرضتها الصحفية اللامعة "أنا أوستورف" في كتابها "نحن أطفال أطفال الحرب".
في اليمن، تبدو المعضلة أكثر تعقيداً من الصورة في ألمانيا؛ فالأطفال في اليمن لم يشاهدوا موت الأقارب وتدمير المدن وحسب، لم يعاينوا الجثث وقصف منازلهم بالمدفعية أو الطائرات فقط، وليسو مجرد أيتام حرب أو مشرديها.. لقد توغل أطفال اليمن في هذه الحرب أكثر من ذلك، وخاضوها كمقاتلين وضاعوا في الجبهات أو عادوا منها.
لا توجد إحصائية جيدة يمكن الوثوق بها عن الأطفال الملتحقين بالحرب في اليمن. مثل مواضيع أخرى تعرض هذا الموضوع الخطر للعبث بغية استخدامه سياسياً، وتبادل التحالف العربي ولجان أممية الاتهامات. وبغض النظر عن مساهمة كل طرف في جريمة الزج بالأطفال في المعارك، فما هو حقيقي وكارثي لا يمكن تجاهله. الآلاف من أطفال اليمن يخوضون الحرب، وهم يشاهدون الجثث أو ينضمون إليها. دفع الحوثيون وصالح بمئات الأطفال إلى الحدود السعودية، وهناك تعرض الأطفال لمجازر رهيبة بسلاح حديث فتاك. ما يجري في مؤخرة الحرب، عند الحدود مع السعودية، أمر مروع لا تصل إليه العدسات، حيث تصبح أجساد الأطفال القادمين من حجة والمحويت وصعدة أشلاء في لمح البصر.
يقوم الإعلام الحربي الحوثي بنشر صور الأطفال الهالكين على نحو شديد الرومانسية. فالأطفال الذين حولتهم آلة الحرب إلى هريسة سوداء يوزع الحوثيون صورهم داخل أطر خضراء، مزينة بالورود، مع ابتسامات على الوجوه وأناشيد في الخلفية حول الفداء والخلود والشجاعة، تلك الصورة الرومانسية عن الطفل الشهيد، الطفل البطل، والطفل الأخضر تغوي أطفالاً آخرين، فالحرب، طبقاً لتلك الصورة، ليست أكثر من أناشيد حماسية ونهايات خضراء.
يجمع الحوثيون أشلاء الأطفال المقاتلين، وهم يعلمون أكثر من غيرهم الحقيقة بمرارتها ووحشيتها. مثل أي جماعة دينية فالأطفال الهالكون هم في طريقهم لأن يصيروا طيوراً في الجنة. يترك الطفل القتيل خلفه طفلاً يتخيل جثته، وأبوين يعيدان سرد القصة عليه لسنوات. الصورة الأولى التي تصل أسرة الطفل القتيل هي تلك الخضراء المحاطة بالأناشيد والورود. لكن الأطفال الناجين من الحرب، أو الذين فقدوا أصدقاءهم الأطفال في الحرب، يجمعون الصورة الحقيقية في مخيلاتهم من مشاهداتهم لجثث أطفال آخرين. تعيش الجثث في مخيلات الأطفال الناجين لسنوات طويلة، وتتلاشى الصورة الخضراء وأناشيدها معاً. لا شيء أكثر قسوة من مشاهدة إنسان يلقى حتفه، يخوض الأطفال اليمنيون هذه التجربة، وعلى وجه الخصوص الأطفال المقاتلون، وإذا نجوا من النيران فإن عليهم أن يعيشوا بتلك التجربة الرهيبة فيما تبقى لهم من عمر.
قبل عامين، نشر إعلاميون من تعز مقطعاً مصوراً لشاب مدني التحق بالمقاومة. في ال?يديو يقف الشاب أمام بيته حاملاً السلاح، وينشد أغنية حول النضال دفاعاً عن تعز، على يمينه وشماله يقف طفلاه ويرددان معه الأنشودة بالحماس نفسه. تمجد الأنشودة الاستشهاد دفاعاً عن كرامة المدينة، بعد وقت قصير يعود الأب إلى طفليه على هيئة جثة. بقيت هذه الصورة في خيالي على مر الأشهر. فلم يمض سوى وقت قصير على اشتراك طفلين في أداء أغنية تمجد الحرب حتى كانت تلك الحرب تهبهما فاجعة وهما دون العاشرة من العمر. التفكك واليتم الحاد هما عبء جديد تضيفه الحرب على الأطفال، وهو مصير لا يقل بشاعة عن الإعاقات المستدامة.
تذهب الحرب وتبقى سرديتها. بالنسبة للأطفال تبقى الجثث، النيران، والأصوات لزمن طويل. لا نعلم حتى الآن كيف سيندمج الأطفال العائدون من الجبهات مع مجتمعهم. يعاني الجنود الاحترافيون العائدون من الحروب من صعوبات جمة في انخراطهم مع مجتمعهم واندماجهم مع أسرهم. هذه المعضلة ستكون مضاعفة ومركبة بالنسبة للأطفال؛ فهم سيعودون وقد قتلوا أناساً وفجروا منازل آخرين، أو شاهدوا كيف تشتعل النيران في جثث رفاقهم الأطفال، وحتى عندما يصبح هؤلاء الأطفال رجالاً فإنهم سينقلون وضعهم النفسي إلى أولادهم.
بعد عقود سيكون لدينا أطفال للأطفال المحاربين، سيولدون لآباء شاردين، خائفين، يعانون من اضطرابات في النوم والخيال، من خوف مستدام، ومن حساسية مفرطة لكل ما يجري حولهم. هذه الخبرة النفسية غير المستقرة ستُمرر إلى أولادهم، ما سيجعل المعضلة متفاقمة أكثر هو أن أحداً لا يفكر فيها. سيتحدث الناس عن إعادة الإعمار، ولن يشيروا إلى أجيال متتالية خربتها هذه الحرب. لا توجد، حالياً وربما مستقبلاً، بنية تحتية طبية ونفسية جاهزة لاحتواء هذه المشكلة النفسية الخاصة.
لا تزال الحرب في أوجها، وفي كل يوم يزداد عدد الأطفال الذين يذوقون لعنتها. وبمقدورنا القول إن الحوثيين سيعتمدون، مستقبلاً، على المزيد من الأطفال في خوض الحرب، على وجه الخصوص بعد أن قتلوا حليفهم صالح، الذي كان لزمن طويل مخزونهم الذي لا ينفد، وهو ما يعني أن هذه المعضلة الجسيمة لا تزال في بداياتها.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها