كنت في مايو الماضي في الأردن للمساهمة في ورشة دولية حول الحرب والحقيقة في اليمن، الرواية عن الحرب التي قدمها الصحفيون الأوربيون، تذهب إلى القول بأن هادي استدعى السعودية لتلقي القنابل على مواطنيه.
لدى الإعلام الأوروبي حساسية مفرطة تجاه كل ما تفعله السعودية، ومؤخراً انتقلت تلك الحساسية ضد تركيا. كل ما تفعله السعودية مُدان في الإعلام الشعبوي الأوروبي، يستوي في ذلك الحرب في اليمن، كما تفعل الإندبندنت، أو بناء المساجد في ألمانيا، كما تفعل فرانفكورته ألغماينه.
بخفة أرثوذكسية يجري قياس ما يفعله البلدان، السعودية وتركيا، وتستسلم الصحف، ومحللون شعبويون كثيرون، لنماذج تحليلية دوغمائية وكاريكاتورية في آن. سرعان ما تسطح المسائل المعقدة وتحول إلى صور تصلح للعرض في شاشات القطارات والإذاعات المحلية.
في واحدة من تغطياتها للحرب في عدن قالت الغارديان إن الفعل الوحيد الذي يجيده التدخل العسكري السعودي في عدن هو قتل المواطنين، كانت تلك هي صورة الحرب التي عثرت عليها الغارديان وقدمتها للعالم.
في الورشة تلك قدمت ناشطة مدنية قادمة من عدن رواية مختلفة عن مواطنين أصيبت منازلهم بصواريخ مقاتلات التحالف لكنهم طلبوا من المسعفين النأي عن الإشارة إلى مصدر النيران، بالنسبة لـ"بن صُميت" فهي نيران صديقة وليس من الجيد التحريض ضد المُنقِذين.
تؤخذ الحرب اليمنية، إعلامياً، من فصلها الأخير، لذا تبدو كما لو كانت حرباً بين السعودية والحوثيين، أو اعتداء سعودياً على اليمن، في مقاله الأخير في النيويورك تايمز قال وزير خارجية إيران إن السعودية تقف وراء كل الظواهر الجهادية في العالم الاسلامي، غير أن مارك ساغمان، عالم الطب النفسي المعروف، كان قد درس ?? حالة عنف سياسي وشاهد أن ??? من الحالات المدروسة قادت إلى ظواهر انتحارية، قال إنها في أساسها نشأت كاحتجاج سياسي.
سبق لساغمان أن جمع، في الفترة بين ???? و ???? بيانات حول الجماعات الإرهابية، بلغت زهاء ???? صفحة، قادت تلك البيانات ساغمان إلى القول إن الظاهرة الجهادية خرجت من مصر لا من السعودية، وفقاً لنموذج ساغمان التحليلي فإن كتابات سيد قطب شكلت المرجعية الأولى، والأخطر، لذلك النوع من العنف الانتحاري. وهو ما يمنح، في تقديره، نموذجه معقولية ويساند فرضيته: فأفكار سيد قطب نشأت كاستجابة لعنف سياسي مفرط. إنها احتجاج انتحاري.
الاستنتاج الذي ساقه الباحث الألماني تودنهوفر في كتابيه "لا ينبغي أن تقتل، ????" و "داخل تنظيم الدولة، ????" هو أن الإذلال والقهر الذي مارسه النظام العراقي المدعوم إيرانيا قاد في الأخير إلى نشوء تنظيم الدولة الإسلامية.
كان أبو بكر البغدادي طالب دكتوراه في بغداد لا تربطه بالسعودية صلة، يعتقد تودنهوفر أن المواطنين السنة الذين أيدوا البغدادي أول الأمر فعلوا ذلك بعد أن قدم نفسه لهم بوصفه البلطجي القادر على تمريغ أنف المالكي في التراب، يتعلق الأمر، مرة أخرى، بالقهر السياسي المدعوم إيرانياً وما يمكن أن يفرزه من ظواهر احتجاج انتحارية، طبقاً لنموذج ساغمان التحليلي.
يعتقد ظريف، وزير خارجية إيران، أن السعودية تقف خلف جبهة النصرة، ليس بمقدور أحد الدفاع عن جبهة النصرة، لكنها لم تهبط مع مطر الخريف، بمراجعة بيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان، مركزه لندن، فإن ? من كل عشرة قتلى في سوريا يسقطون بسلاح النظام السوري المدعوم إيرانياً.
طبقاً لبيانات المرصد السوري فإن داعش تقتل واحداً من كل عشرة. يبقى نموذج ساغمان التحليلي فاعلاً في الحالة السورية . فعندما دفعت إيران النظام السوري إلى مهاجمة شعبه بالمقاتلات والغازات السامة كان الشعب في الميادين العامة ينادي بانتخابات حُرة، وكان ذلك كل ما أراده.
اللقاءات التي أجراها تودنهوفر مع مقاتلين سوريين دارت حول الفكرة ذاتها: الانتقام. فالذين خرجوا في المسيرات السلمية، أول الأمر، كان يريدون حياة سياسية أفضل. لكنهم، بعد أن صاروا مقاتلين، كانوا يتحدثون عن الانتقام وعن المفقودين.
في يوليو الماضي قال آية الله سعيدي، ممثل خامنئي لدى الحرس الثوري، إن لإيران خطوطاً حمراء تتمثل في بقاء الأسد في سوريا، وحكم الأغلبية في العراق بالاستناد، ووفقا لكلمات سعيدي فإن الحرب الأهلية في سوريا انفجرت بعد أن حاول الشعب السوري العبور على خطوط إيران الحمراء.
انهار مشروع الدولة في لبنان وسوريا واليمن تحت ضغط من الجهات المدعومة إيرانياً. فقد فشلت إيران، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، في إقامة علاقات دبلوماسية مستقرة مع الدول وفضلت العمل على مستويات مختلفة : الجماعات والمذاهب والتنظيمات.
بيد أن ظريف اكتشف، في مقاله، أن السعودية تسعى إلى إغراق العالم العربي بمزيد من الفوضى بغية الإضرار بإيران، الصورة القادمة من اليمن تقول إن اليمنيين لم يكادوا يفرغون من كتابة مسودة الدستور التوافقي حتى اكتسحت الميليشيات المدعومة إيرانياً العاصمة وأشعلت حرباً سقط فيها عشرات آلاف القتلى. وبينما اتجهت السعودية والإمارات إلى بناء جيش وطني جديد منحازتين إلى حكومة شرعية وقرارات دولية، سلكت إيران طريقاً آخر واختارت الميليشيا.
تسعى إيران إلى احتواء السعودية عبر مفهوم احتواء خاص بإيران، فبعد سقوط صنعاء في قبضة الحوثيين بأسبوعين التقى علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي للشؤون الدولية، بوفد يمني قدِم بوصفه ممثلاً لعلماء الطائفة الزيدية، أخبرهم ولايتي بما تريده إيران: أن يقوم الحوثيون بالدور الذي يقوم به حزب الله، طبقاً لوكالة إيرن الرسمية.
يحاول ظريف الإفلات من التاريخ مردداً، عبر مقاله، القول إن السعودية تسعى إلى خلق حالة من اللااستقرار في المنطقة معتقدة إن ذلك سيساعدها على احتواء إيران. تشغل إيران سياستها تلك عبر تنشيط كل ظواهر العنف الممكنة من الأعلى إلى الأسفل، كما في الحالة السورية والعراقية، أو من الأسفل إلى الأعلى كما في الحالة اليمنية والنموذجين اللبناني والبحريني.
ليس بلا دليل القول إن التحالف العربي لو لم يتدخل في اليمن لنشأت ظواهر احتجاج انتحارية ولغرقت اليمن في سلسلة غير منظمة من الهلاك والتمزق. إذا كان ذلك قد حدث، وظهرت جماعات انتحارية على غرار جبهة النصرة، فإن إيران ستكون هي التي دفعت الباب وأحدثت كل ذلك الخراب.
فقد هيمن الحوثيون على الدولة، واستطاعوا أن يحصلوا على الجيش ذي الطابع الطائفي، وراحوا يستخدمون الدولة والجيش في خلق جمهورية خوف عامة، كانت أولى خطواتهم هي وضع الرئيس في الإقامة الجبرية، معلنين: إن أحداً لم يعد محصناً من البطش الحوثي، وعندما فر إلى القصر الجمهوري في عدن قصف طيارون حوثيون قصر الرئيس بالطيران الحربي.
يصر الإيرانيون، كما الحوثيون، على رواية الحرب من فصلها الأخير، لكن مصدر التيار، في الغالب، هو الفلسفة الإيرانية التي ترى في اللااستقرار وضعاً ملائماً لفرض مزيد من الهيمنة، لاحتواء السعودية.
عملت إيران على خلق حالة من التمزق العظيم، إذا استعرنا كلمات روجير كوهين، ثم وقفت تحذر العالم من جبهة النصرة.
إذا نظرنا إلى الأعلى، إلى مصدر التيار، فسنرى إيران هناك حيث تنشأ الشلالات. أما في الوادي، في الأسفل، فثمة جبهة النصرة وظواهر انتحارية مكتملة وأخرى قيد التشكل، حدث كل ذلك كنتيجة مباشرة للمغامرة الإيرانية الانتحارية.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها