منذ انطلاق العمليات العسكرية للتحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية، في 26 مارس/ آذار 2015، عاد الحديث بين يمنيين كثيرين عن المرحلة التي أعقبت ثورة سبتمبر/ أيلول 1962، وتعدّدت التلميحات والنقاشات التي تسقط تفاصيل الماضي، بما شمله من أحداث امتدت سنوات، وما يشهده اليمن اليوم، بعناوين وملابساتٍ مختلفة، حيث كانت مصر القوة الإقليمية الفاعلة التي وقفت إلى جانب ثورة اليمن، في مقابل أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ وقفت على الضد، وفي مقدمتها السعودية التي تقود اليوم تحالفاً تعتبر مصر من أعضائه.
ويربط يمنيون بين الأمس واليوم، من زاويا متباينة، فعلى صعيد الشرعية يرى أنصارها ومؤيدو التحالف أن التدخل العسكري، بقيادة السعودية، جاء هذه المرة ضد انقلاب جماعة أنصار الله (الحوثيين) التي تُصنف، بنظرهم، امتداداً سياسياً وفكرياً لنظام الإمامة المطاح في 1962. وبالتالي، فإن موقف الرياض الراهن، وفقاً لهذه الرؤية، يأتي في المسار المحمود ضد مشروع عودة "الإمامة" التي تعدّ، في نظر غالبية اليمنيين، مرادفاً للكهنوت والجهل والفقر والمرض.
وفي المقابل، تستحضر تصريحاتٌ لقياداتٍ محسوبةٍ على الحوثيين وحلفائهم، مرحلة ما بعد ثورة 1962، لإسقاطها على تدخل التحالف بقيادة السعودية، والذي يصفونه بـ"العدوان"، وبأنّ ما يحصل اليوم يمثل تكراراً لتجربةٍ لم يُكتب لها النجاح، لكنّ تجاهل الحديث عن مرحلة الستينيات يظلّ هو السائد في معسكر الحوثيين، حتى لا يُعطي التذكير باستعانتهم بالسعودية بالأمس مشروعيةً لاستعانة الحكومة الشرعية بها اليوم.
وفي السياق نفسه، يعقد متابعون مقارنة من نوع ثالث، تتعلّق بحجم الدعم الذي قدمته مصر لثورة اليمن في الستينيات، في مقابل الدعم الذي تقدّمه السعودية اليوم للحكومة الشرعية، ويعتقد بعض هؤلاء أن الرياض لايزال في مقدورها تقديم ما هو أفضل، لتحقيق الهدف المعلن للتحالف، إفشال الانقلاب وإعادة الشرعية. وعلى كل حال، فإن موضوع التدخل المصري في اليمن في الستينيات يظل مادة ثرية زاخرة بمحطات حريّة بالتأمّل، كاد يطمرها النسيان.
تواصل الثوار وعبد الناصر
قبل خمسة عقود، في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، فرضت القوات الموالية لنظام الإمامة المتوكلية في اليمن حصاراً خانقاً على العاصمة صنعاء، في محاولة أخيرة لإسقاط الجمهورية الناشئة، بعدما سحبت مصر جيشها الذي ظل يساند النظام الجمهوري خمس سنوات. واستمر الحصار70 يوما، وانتهى في فبراير/ شباط 1968، بفشل المحاولة الإمامية وصمود الجمهورية. وظل الدعم المصري محلّ تقدير لدى اليمنيين، لكن خسائره البشرية والمادية الكبيرة، أسهمت في تصويره ذكرى أليمة في نظر مصريين عديدين. وبحسب شهادات مدوّنة عن تلك الفترة، فإن توجّه القاهرة إلى دعم ثوّار شمال اليمن ضد نظام بيت حميد الدين، وثوّار الجنوب ضد المستعمر البريطاني، تبلور قبيل ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962 التي أعلنت قيام نظام جمهوري، وتحقّق عبر تواصلٍ تمّ بين الضابط اليمني علي عبدالمغني (العقل المدبّر للثورة)، والرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وحسب المصادر، اتجهت مصر التي كانت حينها تدعم حركات التحرّر إلى مساندة اليمنيين في التحرّر من الإمامة والاستعمار، مدفوعة بنجاح تجربتها في دعم ثورة الجزائر. وقد اختير عبد الحكيم عامر ليكون مسؤولاً عن المجهود الحربي، ومحمد أنور السادات مسؤولاً عن المجهود السياسي، وتم اختيار ضابط مصري من أصل يمني، هو اللواء طلعت حسن، قائداً للقوات المصرية في اليمن. وتدفّق الدعم العسكري المصري لثوار اليمن منذ الأيام الأولى للثورة، وكان متواضعاً في البداية، حيث تم إرسال ثلاث طائرات حربية وفرقة صاعقة وسرية من مائة جندي، لاعتقاد القاهرة أن مهمة تثبيت النظام الجديد ستكون سهلة، لكن عوامل محلية وإقليمية ودولية متعدّدة تضافرت لتجعل المهمة صعبة، وليرتفع عدد الجنود المصريين تدريجياً حتى يصل في نهاية عام 1965 إلى نحو 55 ألف جندي، موزعين على 13 لواء مشاة، ومسنودين بفرقة مدفعية، وفرقة دبابات وتشكيلات من قوات الصاعقة والمظلات.
محاولات إجهاض الثورة
وقد لاقت الجمهورية الوليدة بقيادة المشير عبدالله السلال، والجيش المصري المساند لها، تحدياتٍ كبيرة، أهمها وقوف أطراف إقليمية ودولية في صفّ الملكيين، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، التي جاء موقفها باعتبارها مملكة، حيث أسهمت بعض مفردات الخطاب الثوري، والدعاية المصرية، في تعزيز هواجس القادة السعوديين أن التغيير في صنعاء قد يطاول الرياض، وأن المدّ الناصري يهدف إلى تغيير الأنظمة الملكية في المنطقة. ويُستخلص من شهادة الثائر أحمد حسين المروني، في مذكراته، أن الرياض لم تقف في وجه الجمهورية من أجل إعادة بيت حميد الدين، بقدر ما كانت تعتبر الأمر معركة وجود.
وقد تركت ثورة اليمن أثرها على الداخل السعودي، وهناك من يربط بينها وانقلاب الملك فيصل بن عبد العزيز على أخيه سعود في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1964، خصوصاً أن الملك سعود انتقل إلى القاهرة عام 1966 لاجئا سياسيا، ثم زار صنعاء في 23 إبريل/ نيسان 1967 واستقبله الرئيس السلال، وانتقد من هناك سياسات أخيه فيصل ودعمه الإماميين. ووقفت بريطانيا التي كانت تحتل جنوب اليمن إلى جانب فلول الإمامة في الشمال، ردّاً على دعم مصر الكفاح المسلح ضدها في الجنوب، وقد خصّصت قاعدتها العسكرية في عدن لتزويد الطائرات المساندة للإماميين بالوقود والسلاح، ونصبت مراكز في المناطق القريبة من الشمال، لمداواة جرحى المقاتلين الموالين للإمامة.
ووقفت دول أخرى ضد النظام الجديد في صنعاء، منها إيران والأردن، وقد تمّت الاستعانة بطيارين أردنيين، بعد رفض طيارين سعوديين ضرب مواقع للقوات المصرية في اليمن، ولجوئهم إلى القاهرة. لكن الأخطر أن إسرائيل دخلت على خط المعارك، إذ وجدها فرصة "لمراقبة وتقييم التكتيكات الحربية المصرية وقدرتها على التكيف مع ظروف المعارك"، وفقاً للكاتب محمد حسنين هيكل. كما عملت تل أبيب على دعم الملكيين لإنهاك الجيش المصري في اليمن، وأعطت شحنات من الأسلحة، وأنشأت جسرا جويا سريا بين جيبوتي وشمال اليمن، إضافةً إلى قيامها بـ"اتصالات مع مئات من المرتزقة الأوروبيين الذين يقاتلون بجانب الملكيين في اليمن". وتفيد تقارير بأن الملكيين استجلبوا مرتزقة من فرنسا، بلجيكا، إنكلترا، ألمانيا وأميركا، عددهم 15 ألف مرتزق، ومنهم جيم جونسون، زعيم المرتزقة الأوروبيين، والمرتزق الفرنسي الشهير، بوب دينار، الذي زار صنعاء لاحقاً، قبل نحو عقد ونصف العقد.
وأكدّت مصادر إسرائيلية دخول تل أبيب على خط الحرب في اليمن في الستينيات، إذ نقلت صحيفة سلاح الجو الإسرائيلي في مايو/ أيار 2008، عن طيارين إسرائيليين، قولهم إنهم شاركوا في مساعدة القوات الموالية لنظام الإمام محمد البدر (آخر أئمة بيت حميد الدين)، في أثناء تصدّيها للجيش المصري، موضحةً أن سلاح الجو الإسرائيلي نفّذ 14 طلعة جوية أسقطت في أثنائها أسلحة وعتادا عسكريا وأغذية ومواد طبية لمساعدة قوات البدر.
صعوبات وتضحيات
إضافة إلى ما سبق، أسهمت عوامل محلية في تعقيد مهمة الجيش المصري في اليمن، لعل أبرزها وعورة التضاريس وانعدام الخرائط الطبوغرافية لأرض المواجهات، إضافة إلى الولاء المزدوج لبعض القبائل التي كانت تقدّم دعماً للجمهوريين والملكيين في الوقت نفسه.
فاقمت تلك العوامل من تضحيات الجيش المصري، وضاعفت خسائره، وتتباين المصادر بشأن حجم تلك الخسائر، إذ يذهب مؤلف كتاب "الزهور تدفن في اليمن"، وجيه أبو ذكري، إلى أن شهداء مصر في اليمن كانوا عشرين ألفاً، بينما تذهب مصادر أخرى إلى أنهم ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف جندي. ما دفع مؤرخين إسرائيليين إلى وصف اليمن بأنها "فيتنام مصر". وتضاف إلى الخسائر البشرية خسائر مادية كبيرة، أثّرت على الاقتصاد المصري، ورفعت من ديونه الخارجية. وقد جيء على هذه الخسائر نفسها في النقاشات في القنوات المصرية إبّان دخول القاهرة في التحالف العربي الذي تقوده السعودية منذ ثلاث سنوات لإعادة الشرعية في اليمن، حيث ذهب بعضها إلى عدم التورّط بقوات برّية مجدداً في اليمن.
والمؤكد أن الدعم المصري لثورة اليمن لم يقتصر يومها على التدخل البري والمجهود العسكري، بل رمت القاهرة بكل ثقلها في المعركة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. كما أنه أُنتجت أفلام وأغان داعمة للثورة، فضلاً عن الدور الإعلامي الكبير الذي قامت به إذاعة "صوت العرب". وشمل الدعم المصري جوانب أخرى، منها تأسيس أجهزة الدولة الوليدة، وسدّ العجز في الكادر الوظيفي، فبعد مغادرة موظفي الإمامة، على قلّة عددهم، لم يكن بين اليمنيين من يسدّ النقص، لأن الشعب كان يعاني أمية واسعة، بسبب طوق العزلة الذي ضربته الإمامة على اليمن. وهو أيضاً ما فرض على المصريين خوض معركةٍ تعليميةٍ، تمثلت في فتح المدارس وإيفاد المدرسين وطباعة المناهج. وبهذا، كان من نتائج الدعم المصري للثورة أن صبغت الأجهزة الحكومية واللوائح الإدارية والنظم التعليمية والتشكيلات العسكرية اليمنية كلها بطابع مصري، لايزال أثره ماثلاً.
طريق المصالحة
وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدموها في اليمن، إلا أن المصريين لم يتراجعوا ولم يتعبوا، واستمروا على الوتيرة نفسها إلى أن شنّت إسرائيل حربها على مصر في يونيو/ حزيران 1967، والتي سحبت نفسها على الوضع في اليمن، إذ استدعى الرئيس عبد الناصر، في أغسطس/ آب من العام نفسه، 15 ألف جندي، لتعويض الجنود الذين فُقدوا في تلك الحرب، ثم عقد اتفاقية مع الملك فيصل في مؤتمر القمة العربية بالخُرطوم، تنصّ على سحب القوات المصرية من اليمن، ووقف المساعدات السعودية للملكيين، وإرسال مراقبين من ثلاث دول عربية محايدة، هي العراق والسودان والمغرب.
وبعد مغادرة الجنود المصريين، قام القاضي عبد الرحمن الإرياني (ثاني رؤساء الجمهورية في الشمال) بانقلاب أبيض على المشير السلال في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وبعد أسابيع، وتحديداً في 28 من الشهر نفسه، أحكمت قوات الإمامة حصار السبعين يوماً على صنعاء، واستبسل الجمهوريون في الدفاع عن العاصمة، بقيادة الفريق حسن العَمْري، الذي استقبله عبد الناصر بعدها في القاهرة، وقال له: "أنت، يا حسن، لم تدافع عن صنعاء، وإنما دافعت عن تاريخ مصر"، في إشارة إلى أن الهزيمة كانت تعني ذهاب كل التضحيات التي قدمتها مصر هباء.
وبعد عامين (في 1970)، عُقدت المصالحة بين الجمهوريين والملكيين، وبموجبها عاد مؤيدو الإمامة إلى اليمن، باستثناء بيت حميد الدين، واعترفت الرياض بالنظام الجديد، وبالمصالحة تم حفظ ماء وجه مصر والسعودية على السواء. وعلى الرغم من انتقاداتٍ يسوقها بعضهم للدور المصري في اليمن، فقد ظل اليمن يثمّن ذلك الدور طوال العقود الماضية، مع التأكيد الدائم أنه لولا دعم مصر ما نجحت ثورة اليمن في نظر يمنيين كثيرين. وقد خُصص لشهداء مصر نصب تذكاري غرب العاصمة صنعاء، وخُصصت صالة في المتحف الحربي تضمّ صوراً لمجموعة من أبرز الضباط المصريين الذين قضوا في اليمن. وعشية الاحتفال بعيد الثورة يشارك وفد عسكري مصري في إيقاد الشعلة في ميدان التحرير، كما يضع الرئيس اليمني، أو أحد معاونيه، يوم العيد، إكليل زهور على النصب التذكاري لشهداء مصر. وقد توقف هذا التقليد منذ انقلاب الحوثيين في 2014، وهم الذين يوصفون بأنهم امتداد لنظام الإمامة.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
مسلسل "مغامرات نشوان".. ضربة معلم
الزيود.. خطورة التسمية وضرورة الفهم
سليماني واحتمال الرد من اليمن