يتموضع حزب التجمع اليمني للإصلاح في قلب المعادلة السياسية اليمنية التعددية كإحدى أهم ركائزها على مدى 27 عاما منذ تأسيسه في 13 سبتمبر/أيلول 1990، باعتباره إحدى ثمار إعلان قيام الوحدة اليمنية في مايو/أيار 1990. تلك اللحظة مثلت بداية مسار التعددية السياسية والثقافية في يمن ما بعد الوحدة، وحتى انقلاب 21 سبتمبر/أيلول 2014 الذي أعاد المجتمع اليمني عقودا -إن لم يكن قرونا- إلى الوراء بإسقاط جمهوريتهم الديمقراطية التعددية.
ويأتي حزب الإصلاح في مقدمة المجتمع اليمني الذي دفع ثمناً باهظا جراء هذا الانقلاب، باعتبار أن الحزب كان هدفا مباشراً ومعلنا لهذا الانقلاب، رغم أن الهدف الكبير للانقلاب كان هو الانقضاض على النظام الجمهوري بدرجة رئيسية.
لكن إعلان منفذي الانقلاب أن حزب الإصلاح عدو لهم لم يكن سوى إحدى التغطيات المكشوفة لهدف الانقلاب الواضح والصريح في إسقاط الدولة والجمهورية، وإعادة حكم الإمامة الزيدية بكل أبعادها السياسية والثقافية ومترتباتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
وهنا وجد حزب الإصلاح نفسه في قلب معركة مكشوف الظهر منذ لحظة الانقلاب الأولى، بوصفه هدفا للانقلاب وبعض الأطراف الأقليمية في آنٍ واحد، وباعتباره حاملا سياسيا رئيسيا لثورة 11 فبراير/شباط 2011، التي كان إنهاؤها هدفا للانقلاب وربما لأطراف إقليمية كان لديها سوء تقدير لمآلات الصراع والحرب في اليمن.
صحيح أن الإصلاح أدرك ذلك باكراً فاستطاع أن يتجنب جره إلى معركة خارج حدود وظيفته الحزبية والمدنية، لكن سقوط اليمن كله في أيدي منفذي الانقلاب لم يدع أمام الإصلاح من خيار إلا العودة إلى تصدر مشهد المقاومة اليمنية من جديد، بعد أن أدرك أن المعركة أكبر من مجرد استهدافه فحسب، وأنها ترمي إلى إسقاط الدولة والنظام الجمهوري معاً.
تجنُّب الإصلاح للمعركة منذ البداية شيء طبيعي نابع من طبيعته كحزب سياسي مدني بدرجة رئيسية، كما أنه -في ذات الوقت- يرى أن الدفاع عن المجتمع ومؤسساته الحزبية والرسمية هي مسؤولية الدولة في المقام الأول، ومثل هذه الرؤية تتأتى في مجتمع وصل مراحل متقدمة من الوعي السياسي والمجتمعي لإدراك وظائف كل فرد وكيان داخل المجتمع، وليس في مجتمعات ما زالت تمثل الأمية الأبجدية نسبة كبيرة فيها.
معضلة عاصفة الحزم
مثلت لحظة سقوط الدولة وجمهوريتها في أيدي مليشيات طائفية واحدة من أسوأ لحظات اليمنيين على الإطلاق منذ إعلان قيام الجمهورية في 26 سبتمبر/أيلول 1962، وكان سقوطها صبيحة 21 سبتمبر/أيلول 2014 لحظة ذهول صادمة لليمنيين جميعا، باعتبار أن ما حدث يعني عودة اليمنيين قرونا إلى الوراء.
وقد دفعت هذه اللحظة بكل القوى الوطنية الواعية بخطر الإمامة وعودتها إلى البحث عن أي حليف لمساعدة اليمنيين في التخلص من هذه الكارثة السوداء والجائحة التي حلت على اليمنيين، بسبب تقصيرهم الكبير الذي أوصلهم إلى هذه اللحظة البالغة السوء.
بيد أن الذي حصل بعد ذلك هو أسُّ الإشكال الكامن في معركة استعادة الشرعية اليمنية حتى اللحظة، ويتمثل في تأييد قرار عاصفة الحزم دون رؤية واضحة المعالم لكيفية هذه الاستعادة وحدود دور كل طرف في هذه المعركة، التي تحولت إلى أشبه بمتاهة كبيرة لا أحد يدري أين نهايتها بالضبط، مع عدم وضوح ماهية الأهداف غير المعلنة والتي وقفت حاجزا أمام عودة الحكومة والرئاسة الشرعيتين اليمنيتين إلى عدن العاصمة المؤقتة، فضلا عن العودة إلى صنعاء التي لا تزال تحت سلطة الانقلاب.
اندفع الإصلاح وحيداً لتأييد قرار عاصفة الحزم من بين كل القوى السياسية المشاركة في حكومة الشرعية، والتي ظلت على علاقة حتى بسلطة الانقلاب نفسه بصنعاء، فيما وجد الإصلاح نفسه وحيدا في تأييد قرار عاصفة الحزم دون أي ثمن يذكر فيما يتعلق بمكانته في قلب هذه المعركة المصيرية للمنطقة كلها.
وبمعنى آخر؛ رمى الإصلاح بكل ثقله في قلب معركة كبيرة ومصيرية دون حتى مجرد نقاش لكيفية سير هذه المعركة التي تحمّل شباب الإصلاح في الجبهات نصيبهم الأكبر منها في مقاومة الانقلاب، في حدود أدنى من الدعم والإسناد الذي لا يكاد يذكر، في حين يذهب جل الدعم لأطراف يكاد يكون دورها أقرب لعرقة المعركة وليس للانتصار فيها.
كارثة ما يجري في الملف اليمني -وخصوصا في موضوع العلاقة بين الإصلاح والتحالف العربي- تكشف بوضوح أهداف التحالف غير المعلنة وغير الواضحة، من خلال عرقلة عمل الشرعية ومنع عودتها إلى عدن حتى الآن، وسعي أطراف في التحالف لإعادة نظام علي عبد الله صالح بإحيائه مجددا نكايةً في الإصلاح كأحد مرتكزات ثورة 11 فبراير السلمية.
المأزق الديمقراطي الحزبي
يمتلك الإصلاح أكبر قاعدة حزبية شابة في المشهد السياسي اليمني تكاد تكون شبه مغلقة على الطبقة الوسطى من المجتمع اليمني من خريجي الثانويات والجامعات، وقد انضمت هذه القاعدة إلى هذا الحزب مؤملة فيه إخراج اليمن من وهدته السياسية التي تعثّر فيها على مدى العقود الماضية وحتى لحظة انطلاق ثورة 11 فبراير.
لقد كان شباب الإصلاح العمود الفقري للثورة بجانب كل القوى الشبابية الحزبية الأخرى، التي نزلت إلى الميدان مفجرة تلك الثورة المدنية السلمية التي اضطرت بسببها القيادات الحزبية للنزل إلى الميدان، بعد أن كانت تمضي في مسلسل المساومات السياسية مع نظام صالح على مدى عقود.
وبقدر ما كان خروج شباب الإصلاح للثورة تعبيراً عن عدم رضاهم عن النظام السياسي الحاكم حينها، كان أيضا تعبيرا عن تبرمهم أيضاً من قيادة الحزب وأدائها السياسي الرتيب منذ التأسيس وحتى لحظتها، فشباب ينتمي أغلبهم إلى حملة الشهادات العليا ولديهم طموحات كبيرة لا يمكن أن يستمروا في خانة الانتظار، وهم يرون أنهم قادرون على إدارة دفة السياسة والدفع بالمجتمع لتجاوز حالة الجمود والفساد والتكلس السياسي.
يدرك شباب الإصلاح اليوم -أكثر من أي وقت مضى- أن ما وصل إليه اليمن من انتكاسة تاريخية إلى الوراء هو نتاج طبيعي لمنظومة سياسية عاجزة، ومقيدة بحسابات لا علاقة لها بالسياسة كتدافع رؤى وتصورات أجيال في كل بنى العملية السياسية اليمنية بمختلف توجهاتها.
وفي القلب من هذه البنى السياسية حزبهم الإصلاح الذي لم يشهد تغييرا قياديا ديمقراطيا فيه منذ فترة التأسيس باستثناء من يغيبهم الموت الطبيعي، وهذا التكلس بات اليوم عاملا كبيرا من عوامل الإعاقة السياسية لحزب الإصلاح الكبير والمنتشر على امتداد الخريطة الجغرافية والاجتماعية والثقافية اليمنية.
ثنائية الدعوي والسياسي
من الإشكاليات العميقة في بنية وتكوين حزب الإصلاح خلطُ العمل الدعوي بالسياسي وعدم الفصل والتمييز بينهما في أداء الحزب، الذي تم تأسيسه باعتباره امتدادا للحركة الإصلاحية "الإسلامية" اليمنية.
وبقدر أهمية هذه الخلفية الثقافية فإنها تعمل على إعاقة الأداء السياسي للحزب الذي يعيش حالة من التيه، وعدم القدرة على التعاطي مع التحولات السياسية المتسارعة من حوله بمنظور سياسي براغماتي، وغلبة المنظور الدعوي على تفسيره لهذه التحولات بالقضاء والقدر وليس بالمنظور السياسي للتدافع والصراع.
عدا عن هذا، أثرت الخلفية السلفية لبعض القيادات التنظيمية -وخاصة تلك التي تلقت تعليمها في السعودية فعادت بخلفية سلفية في التفكير والتصور- على تراجع أداء ليس فقط الحزب وإنما التيار الإسلامي كله، نتيجة منطق القطيعة والمفاصلة الذي يتبناه الفكر السلفي مع محيطه المجتمعي.
وقد أثر ذلك بشكل كبير في أداء الإصلاح السياسي مما سهل على قوى وأحزاب سياسية هامشية وصغيرة أن تلعب سياسيا بشكل أكبر من حجمها ودورها، وبجانب حزب كبير كالإصلاح لكنه مترهل سياسيا بسبب التكلس التنظيمي الذي يُغلّب على الكفاءة السياسية في تصعيد القيادات وانسيابها في دواليب إدارة الحزب، المقيدة ببيروقراطية تنظيمية محكومة بخطاب دعوي لا يتناسب مع الأداء السياسي لحزب يمارس السياسة من منظور دعوي.
بات من الضروري اليوم للإصلاحيين حتمية التمييز بين الديني والسياسي، بعد كل هذه التجربة التي بددت جهودا كبيرة من العمل العام خارج الأهداف السياسية المتوخاة من عمل سياسي، وهذا التمييز هو المقدمة لعمل سياسي أكثر وضوحا وأشد تركيزا على تحقيق الأهداف الكبرى للأمة اليمنية، بعيدا عن أي مسار آخر يُشغل ويشتت الجهود.
التمييز بين السياسي والديني وحده هو المسار القادر على ضبط إيقاع العمل السياسي لتيار وطني شعبي كبير ومتجذر في المشهد السياسي اليمني، وعابر لكل الثنائيات الحاكمة المذهبية والمناطقية والقبائلية، عدا عن أنه الأقدر على رسم الأهداف بعيدا عن ديماغوجية الخطاب والخطاب المضاد للصراعات المذهبية التي يراد جر الإصلاح نحوها، مع عجز الساعين لذلك عن تحقيقه حتى الآن.
اليمن الجمهوري الاتحادي المدني الديمقراطي هو الهدف الذي ينبغي التركيز عليه اليوم وبأدوات واضحة تماما، وهي أدوات الفعل السياسي المجرد من أي ارتباطات أخرى وخاصة العمل الدعوي الذي ينبغي الاحتفاظ به خارج إطار الأداء السياسي، الذي ينبغي أن يظل عملا سياسيا خالصا بعيدا عن أي أدلجة تضع العوائق أمام مسار العمل السياسي الوطني العام، في فضاء ملغوم بالطائفية السياسية والكيديات الأيديولوجية المتكلسة.
يجب أن يبقى العمل السياسي عملا سياسيا بحتا ويفصل عن أي مسار دعوي تربوي يتم خارج مؤسسات العمل السياسي، كما هو الحال في تجارب إسلامية أخرى ناجحة ينبغي استلهام فكرتها كتجربة حزب العدالة والتنمية المغربي وحزب النهضة التونسي، فضلا عن التجربة الأبرز اليوم في مسار النموذج الأنجح إسلاميا وهي تجربة حزب العدالة والتنمية التركي.
لم تعد هذه الفكرة خيار ضرورة بقدر ما غدت اليوم قناعة لدى شريحة كبيرة من قواعد وقيادات التجمع اليمني للإصلاح، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة الكيديات السياسية من فرقاء السياسة قبل خصومها، الذين يتحركون بدينامية سياسية أكبر من الإصلاح المكبل بقيود كثيرة تحد من أدائه وحضوره السياسي العام.
يدرك الجميع اليوم -ومنهم الإصلاحيون قبل غيرهم- أن لا مستقبل لهم ولا لليمن كله دون استعادة الدولة والشرعية وإسقاط الانقلاب، وأن هذه المعركة مصيرية ليس لليمن فحسب وإنما للمنطقة كلها باعتبارها معركة وجودية تحتم وحدة الرؤية والهدف، المتمثل في استعادة الدولة اليمنية المختطفة ووقف تمددات المشروع الإيراني الذي لن يتم إلا بوحدة الرؤية لدى شركاء المعركة جميعهم.
لقد باتت ضروريةً اليوم المكاشفةُ والمصارحة مع شركاء المعركة بأن اليمنيين شركاء في المعركة وليسوا أتباعا فيها، ومن ثم يتأتى السؤال عن ماذا تحقق خلال المرحلة السابقة من الحرب التي تقترب من انتصاف سنتها الثالثة على التوالي؟ وأين أخطأ الجميع وأين أصابوا؟
أما السير في الطريق دون رؤية أو خطة واضحة فليس سوى متاهة، ولن يسلم الجميع من مأساوية النهايات التي تنتظرهم في حال السير على نفس النسق الذي مضت فيه المعركة حتى الآن.
*الجزيرة نت
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة