ضاقت الغنيمة بالرجلين في صنعاء، ولم تعد كافية للقسمة عليهما معاً. ما يزيد المشهد تعقيداً هو أن أحدهما، كما يبدو، غير قادر على الإجهاز على الآخر والذهاب بالغنيمة. وحتى فيما لو كسر أحدهما الآخر فلا بد أن يرث جماعته. ما بقي من غنيمة، أيضاً، غير كافٍ لإعاشة جماعتين. الجماعتان، أيضاً، ليستا سوى متتالية ميليشوية. في حال كهذه تصبح الحرب، بالنسبة للمنتصر الأخير، أقل كلفة من السلم، والوسيلة الوحيدة لإعاشة ما بحوزته.
من غير المؤكد أن يذهب الرجلان في طريق المواجهة الشاملة، فلا تزال الأوراق المطروحة على الطاولة تقول، بجلاء، إن كليهما يمثلان نفعاً لبعضهما. وحتى بعد أن يكف أحدهما عن نفع الآخر فإن الظروف الملائمة للغدر ليست ملائمة بعد. فكلا الرجلين يحتفظان بسيرة استثنائية في الغدر والخداع، ويعرفان أكثر من أي آخر أن للغدر طقوساً بعينها ليس من الجيد غض الطرف عنها، وأن النصر غيلة. فقد نجح الرجلان، على مر الأيام، لأن ظروفاً بعينها كانت مواتية.
في الأيام الماضية أصدر الرجلان أغنيتين حربيتين، من أغاني المعارك. استهلت الأغنية الحوثية بجملة "معك معك يا ابن النبي مهما حصل". وافتتحت أغنية صالح نفسها بنداء إلى "شامخ النهدين". الاستماع إلى الخطاب الدعائي في الأغنيتين "الزاملين" بمقدوره أن يهديَ المستمع لتخيل مدى ما يمكن أن تذهب إليه كل جماعة في حربها وعنفها. إلى الخلف من صالح، أو خارج أسوار محبسه، ثمة حشود موسمية ديناميكية بلا وجهة ولا قيمة مركزية، بخلاف جماعة الحوثي. فهي تتحلق حول "ابن النبي"، ولا يملك رجال النبي الحق في الفرار، أو حتى التلكؤ.
يمكن القول إن ميزان القوى يميل لصالح "ابن النبي"، ولكن لماذا نتحدث عن ميزان قوى داخل القوة نفسها، المعسكر نفسه. يمثل صالح الناسوت، ويعبر الحوثي عن اللاهوت، وإذا حدث صراعٌ ما فسيجري بين الأرض والسماء، بين رجال الرب ورجال سلطان سابق. هذا الشكل الأسطوري للمعركة قد لا يحدث، فخلف الواجهة الطنانة توجد معادلات رياضية غاية في الدقة، لا تزال حاكمة لمعادلات الحركة في صنعاء.
أحاط الحوثي صنعاء بمقاتليه على هيئة معسكرات ديناميكية، وملأها صالح من الداخل بمتظاهرين يرفعون الأعلام والصور، وينصرفون في التو. كان إعلام صالخ فخوراً بالمقارنة، إذ لا يمكن مقارنة الحشدين. غير أن الحوثي سرعان ما قرأ عليهم المعادلة برياضيات مختلفة، فبعد الانتهاء من آخر كلمة في الحفلة قام بضعة عشرات من مسلحيه بإطلاق النار في الهواء ونجحوا في تفريغ أكبر ميدان في اليمن من عشرات الآلاف. تلك هي المعادلة التي يستند إليها الحوثي دائماً، والتي حازت رضا صالح سابقاً، وتدبيراته. ففي واحدة من مهاتفاته المسربة يقول لشخصية حوثية "قد ذا سبرنا الأمور لأصحابك مش بعدا حاربي وارقدي". كان، كعادته، قاطعاً حتى وهو يتحدث حتى إلى كيان خارج سيطرته: لقد فتحت لكم الطرقات، وجعلت كل شيء في الجمهورية ممكناً لأجلكم، فلا تناموا.
فكك صالح الجمهورية وجعل كل شيء فيها ممكناً وقابلاً للزوال، حتى ذاته. ورويداً رويداً صارت ذات صالح من ضمن الأشياء القابلة للمحو، والتمثيل. وقع الرجل في مأزق مستحكم. فالجيش اليمني يحاصر صنعاء، ويستعيد مع المقاومة، وإن ببطيء شديد، الأرض. وفي الداخل يطلب منه الحوثيون المزيد من الطاعة، والأكثر من الخدمة. ولأول مرة وجد نفسه عاجزاً عن تغيير خارطة تحالفاته، فقد انتهى به القطار في تلك المحطة، وفي وقت غير مناسب.
فقد صالح ما هو أكثر مركزية من جيشه: الثقة به، أي مصداقيته. بمقدور المرء المناورة. تتحرك المناورة، في العادة، في فضاء الثقة، وما إن يصبح الرجل مناوراً بارعاً حتى تكون مصداقيته، حتى على مستوى المسائل العادية، قد تلاشت. لم يعد أحد يثق في الرجل، حتى ذلك الحشد الكبير الذي حضر للاحتفال بالذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس حزب المؤتمر، حزب صالح، فقد كان يحاول إجراء مصالحة مع الرجل، كما القول إنه معني بالتعبير عن رفضه للحوثيين أكثر مما تعنيه تدبيرات صالح ودوافعه. كانت "لا للحوثي" أكثر جلاء من "نعم لصالح". وكان بالمقدور إدراك رسالة صغيرة خرجت من الجماهير، تقول لذلك الماكر: نعلم أنك ماكر ولديك دائماً الكثير من وسائل الخداع، ونريد منك أن تستخدم كل ذلك الآن. لكنها مواجهة، في نهاية المطاف، مع جماعة دينية تعيش في أكثر أزمنتها رحابة ونشوة.
على المستوى الإعلامي ثمة مواجهة ضارية بين الطرفين. وميدانياً يحفر كل طرف، بتسارع ملحوظ، الخنادق. اعترف نجل شقيق صالح، قبل أيام، بدور فاعل لحزب الله اللبناني في تهدئة وتيرة الصراع. في العامين الأخيرين تسابق الرجلان، وهما يختلفان طائفياً في الدرجة لا في النوع، على مد الجسور مع الحزام الطائفي الواسع الذي تؤسسه إيران في المنطقة العربية. نظرياً يبدو الصراع واقعاً داخل دائرة التأثير الإيرانية، وفي مجالها الحيوي، كما لو كان صداماً بين عربتين تملكهما.
الحوثية حركة متجانسة إلى حد بعيد، لكن جماعة مصلح متناقضة من داخلها، ثقافياً وعقائدياً/ إيديولوجياً ونفسياً وجهوياً. وفي أحيان كثيرة يجد صالح نفسه وقد انزلق إلى معركة إعلامية مع الحوثيين بسبب تصعيد تقوم به جهة داخل حزبه/ جماعته. وغالباً ما يأتي التصعيد من "براغلة المؤتمر"، بحسب التصنيف الحوثي. وهم المثقفون القادمون من محافظات حزام الوسط، سرعان ما يعمل طائفيو الحزب، في الأعلى، على احتوائه.
يتفاخر بعض مثقفي جماعة صالح بالإشارة إلى قدرة "القيادات العليا الحكيمة" على احتواء التصعيد، والانهيارات. تؤيد هذه المشاهدة ما قلناه، فعلى المستويات العليا تبدو الجماعتين متقاربتين، وفي أحيان كثيرة تكاد تختفي الفروق بينهما. يحتوي المؤتمر على غرفة تبديل ملابس، يخرج منها رجاله في زي جديد، بحسب الحاجة.
عشية احتفال المؤتمر بعيد الحزب السنوي أصدر الحوثيون قراراً بوضع جهاز الاستخبارات العسكرية في قبضة قائدهم العسكري الأشهر "أبو علي الحاكم". تخبط إعلام المؤتمر، وشعر ناشطو الحزب بالغضب والتوتر، وكان يمكن ملاحظة ذلك من خلال تدوينات الناشطين الأوسع انتشاراً.
لكن الأمين العام المساعد للحزب، العواضي، كتب في تويتر عن القرار، قائلاً إن الحاكم يستحق ما هو أكثر من ذلك. في الطبقات السفلى ثمة أخلاط، وتناقضات. وبالرغم من أن جماعة الحوثي تبدو أقرب إلى التجانس، في بنيانها ومزاجها، فإن جماعة صالح واسعة التناقض، ويمكن القول إن تناقضاتها قد تبدو مستعصية. وحتى الآن لا تزال الصدامات تصعد من الأسفل إلى الأعلى. عندما يحدث العكس، فإن معركة حقيقة وحاسمة ستجري. وتلك مسألة تقول البيانات إنها لا تزال مؤجلة، وقد لا تحدث.
من وقت لآخر يبتكر صالح مناسبة ما، وينادي على مؤيديه للقدوم إلى صنعاء والاحتفال. يتوافد الآلاف، ويجتمعون في ميدان السبعين، ويرفعون الصور والأعلام. يشاهدون "الرهينة" لدقائق معدودة، ثم يعودون: هو إلى محبسه، وهم إلى قراهم. حدث، أيضاً، أن الرهينة لم يستطع الخروج إليهم، وبدلاً عنه تحدث إليهم بعض زواره الكبار، وألقوا كلمات فارعة الطول عن الجمهورية والشرف.
يتسلى الجنرال، الذي انحدرت به الطرق إلى دويدار حالي، بمشهد الجماهير. فتلك الصورة هي ما بقي له من سيرته كصانع وحيد للفعل خلال ثلث قرن.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها