في خضم تدفق المعلومات وتلاحق الأحداث خلال السنوات القليلة الماضية وتحديداً منذ سقوط صنعاء المدوي وفي نظرة بانورامية لمآلات الأحداث وتطوراتها، غدا البعض لا يدرك تفاصيل يوميات الأزمة وكأن الذاكرة اليمنية غدت مثقوبة بفعل آلة الإعلام الديماغوجي من جهة وارتهان الحالة اليمنية لتصبح ورقة صراع إقليمية في ظل عجز التحالف في تحقيق الأهداف المعلنة في إعادة الشرعية، ليتضح جلياً بأننا ما جرى ويجري وفق إستراتيجية مخطط لها سلفاً بتواطؤ الدولة العميقة للأطراف المتصارعة اليوم بما فيها الرئيس هادي نفسه.
الأحداث فعلاً قد خُطط لها بعناية من قبل خبراء في الحرس الثوري ألإيراني وحزب الله اللبناني قبل بضعة أسابيع من ذلك السقوط المدوي مع اختلاف جوهري في التنفيذ لاعتبارات عنصر المفاجئة المحلية والإقليمية على النحو الذي آلت إليه تلك التطورات الدرامية.
وبداهة لا يعني الانتصار السياسي المرحلي لهذا الطرف أو ذاك هو نهاية المطاف فالمشهد لم يكتمل والعبرة بالنتائج كما يُقال، ولا يخدم الوحدة الوطنية بأي حال من الأحوال على الأمد البعيد او حتى القريب، وسينقلب طردياً بصورة سلبية لا محالة. بل أنه يقرب الحرب الأهلية المفترضة لان مسوغات ومعطيات الواقع تشير لبداية مرحلة تمهد لصراع أطول زمنا ودموية.
وفي محاولة التلذذ بجلد الذات كأن الشعوب العربية التي جرت فيها محاولات التغيير تدفع ثمن تلك التطلعات بعد وأد ثورتها من قوى الثورة المضادة التي تواطأت مع تأمر الإقليم والقوى الكبرى، فثمة بؤر توتر تزداد تفاقماً ولا يبدو أفقاً لحالة انفراج متوقعة، في كثير من تلك المناطق التي تزداد سخونة يوما بعد يوم.
لليمن خصوصيته ويشبه النموذج السوري في حدة تكالب القوى المتصارعة والليبي في النزعة القبلية وتداخل الدين بالسياسة، لكنه يكاد يتطابق مع الحالة العراقية في عدة اوجه. الوحدة بين الملفات تكمن في أساسية علاقة العواصم الاربع مع تطلعات إيران. فالاستقطاب الطائفي والسياسي تحت عنوان السيادة والوطنية يزداد حدة مع سخونة الأحداث والحشد الشعبي في كل تلك البؤر الساخنة.
ولو تمت مقارنة حال العراق واليمن فعراق صدام حسين كان في وضع اقتصادي وعسكري وعلمي لا يُقارن بحال من الأحوال بيمن علي عبدالله صالح.. معلوماً بأن العراق وقع فريسة تأمر الخارج والنزعة الدكتاتورية الصارمة لنظام صدام حسين. والنزعة الديكتاتورية التسلطية أضاعت العراق والنتيجة خسران كل ما بني، وفي كل الأحوال فأن تلك القيادة قد توارت وأتت نقيضها.
في حين أن الحالة اليمنية تختلف. فالنُخب السياسية هي ذاتها بشخوصها في القيادة وقواعدها بل وخصومها وما حدث هو انقسام تلك النخب على نفسها ومما زادها انقساما هو دخول مكون جديد في المشهد كقوة صاعدة عسكرياً وعاجزة سياسياً ومؤدلجة مذهبياً الأمر الذي دعا خصوم الأمس ليصبحوا حلفاء اليوم والعكس صحيح، ويدخل الجميع في مشهد تصادمي سيريالي على النحو الدرامي الذي نشهده.
فالتحولات التي يشهدها الداخل أعسكرية كانت ام سياسية، وبغض النظر عن مآلاتها، فإنها تعكس تعثر التحالف من جهة وخذلان وضعف الشرعية من جهة أخرى. فالتحالف لم يتمكن خلال نحو عام ونصف من إعادة الشرعية وهذه الأخيرة لم تقدم نموذجا يُحتذى في المناطق التي تزعم بأنها حررتها سوى بالتواجد على الأرض وكذا بالخدمات وفرض الامن المرتجى. وبداهة فأن الأطراف التي تحاول خلط الأوراق في المشهد اليمني في الداخل ليست ولن يكون له شرعية ولم يحققوا نجاحاً ولكن كلاهما باختصار يستثمرون فشل الآخرين.
وعلى خلفية استمرار قصف التحالف دون حسم يذكر منذ عام ونصف فقد كان ذلك بمثابة طوق نجاه لطرفي الانقلاب واللذين تناصف مؤيديهما دعما لهما بذريعة مواجهة العدوان ناهيك عن الانقسام الرئيسي بين شرعية تتآكل لضعف الأداء وقلة الحيلة والمناورة وبين خصومها الذين استغلوا غياب هذه الشرعية عن الوطن بزيادة مؤيديهم في شعبية واهمة.
وبداهة، فالانقلاب انقلاب وحتماً ليس باستطاعته شرعنة نفسه وحاضنته الشعبية المزعومة نتيجة ضعف الشرعية المهاجرة لبلد يعتبره الشعب مصدر العدوان على اليمن دون أن يدرك هؤلاء بأن سبب هذه الحرب هي تناقضات الداخل قبل الجزم بنظرية المؤامرة. فكان اليمن بركان يغلي وبحاجة لعود ثقاب لانفجار ذلك البركان فكان سقوط صنعاء سببا كافيا وذريعة لعدوان الخارج.
ثمة من يرى بأن أحزابنا الانتهازية قد ساهمت بطريقة أو بأخرى في تجميل شكل النظام السياسي غداة الربيع العربي فهذه الأحزاب نفسها هي من تقاسمت السلطة واقصد ما يُسمى بأحزاب "اللقاء المشترك" الذي شرعن المبادرة الخليجية من أجل فتات من بقايا السلطة التي كانت ولا تزال بيد من استفاد من تلك الحصانة!
وعلى هذا النحو يبدو جلياً بأن المشهد اليمني ينزلق لسيناريو أسوأ. ففي الوقت الذي يتوقع الراصدون بأن الحرب الشاملة ستتراجع في الأسابيع المقبلة بصيغة أو بأخرى، لكن الوضع لن يستتب مهما كانت نتيجة هذه الحرب وسيطغي على المشهد مرحلة مقبلة مرعبة سِمتْها الحرب الصامتة والتصفيات للخصوم.
سيتزامن ذلك حتماً بسياسة الترغيب والترهيب ويبدو ان اليمن سيلج مرحلة شبيهة بما حدث في العراق غداة سقوط بغداد!
بدأ واضحاً بأن المرحلة المقبلة أيضا ستشهد حملة اغتيالات وتقيد ضد مجهول، سواء انخرطت أطراف الصراع في حلول سلمية او في ظل حالة اللاحرب واللاسِلم. ولا اقصد هنا فقط اغتيالات ضد تيار سياسي معين على النحو الذي نشهده في الساعات والأيام الماضية، الإعلام سيظهره بأنه صراع بين الأطراف اليمنية ولكنه حتماً له بعد وإيعاز إقليمي، وبداهة فأن دول الإقليم التي تعبث باليمن وعجزت حتى عن الدفاع عن نفسها لازالت تدس انفها لزرع الشقاق بين اليمنيين. فالبيئة خصبة لاستقطاب سياسي حاد وحالة الفلتان والعوز كفيلة بتحول المقاتلين في الجبهات إلى ملثمين داخل المدن. سيدرك اليمنيون أجلاً أو عاجلاً بأن خراب البنيان اهون من خراب الإنسان. فالشخصية اليمنية منكسرة وخيبة أمل وحالة قنوط لتفكك النسيج الاجتماعي لعبث الساسة ولاستحالة استتاب الأمن والسلام. فلا عجب فقد غدا للأسف الجميع يكره الجميع، ولن يعرف احد من ضد من؟
* ميدل ايست أونلاين
اقراء أيضاً