يقسم بعض الباحثين الحروب حسب وسائلها وتكتيكاتها إلى أنواع، أو أجيال تبدأ بحرب الجيل الأول، وهي الحرب التقليدية بين دولتين وجيشين، ثم الجيل الثاني وهي حرب العصابات، وحرب الجيل الثالث، التي تسمى عسكرياً «الحرب الوقائية» ثم حرب الجيل الرابع التي تعد حرباً أمريكية بامتياز، طورها الجيش الأمريكي وفق ما يعرف بالحرب غير المتماثلة، وهي التي تشنها دولة ضد جماعة إرهابية داخل دولة أخرى، ويُضرب لها مثل بالحرب على تنظيم القاعدة، ثم تطور المفهوم ليصبح الحرب التي لا تكون الدولة الطرف الأقوى فيها، ويمكن أن تنطبق على حرب الدولة والميليشيا في عدد من الدول التي ضربها الربيع العربي.
يقول الأمريكيون إن الحرب على العراق عام 2003 كانت وقائية من الجيل الثالث، ثم تحولت إلى نوعية حروب الجيل الرابع، بملاحقة «الجماعات الإرهابية» حسب التصنيف الأمريكي، لتتسبب حرب الجيل الثالث بحرب الجيل الرابع، ويتسبب التدخل الأمريكي بتدمير الدولة العراقية، لتصبح في السنوات التي تلت الاحتلال مرتعاً خصباً للإرهاب والحرب الطائفية الرهيبة.
والحقيقة أن الحرب على العراق لم تكن وقائية، لأن العراق حينها لم يكن يشكل أي تهديد على الولايات المتحدة، ولكن أهداف هذه الحرب تبينت فيما بعد في الهوة الطائفية العميقة التي خططت واشنطن لإيقاع بغداد فيها، وهي هوة تكون السطوة فيها للجماعات المسلحة على حساب الدولة.
وضمن مفاهيم حرب الجيل الرابع ما ذكره البروفيسور الأمريكي ماكس مايوراينك في محاضرة ألقاها في معهد الأمن القومي الإسرائيلي من أن حرب الجيل الرابع هي التي تسعى «لإفشال الدولة وزعزعة استقرارها، لفرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية» عن طريق استراتيجية «التدخل السلبي» لتعزيز الانقسامات الطائفية التي تؤدي للحرب، واستهلاك المجتمعات والدول المستهدفة في الصراع، دون مجهود كبير من طرف من يتدخل لإذكائها.
في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كان العراق بعيداً عن الطائفية التي عصفت به بعد الاحتلال الأنكلو-أمريكي، حيث رفض صدام كل أشكال المفاهيم الطائفية، وتسنم كثير من الشيعة مناصب عليا في الحزب والدولة، وبلغت نسبة تمثيلهم في المراكز القيادية لحزب البعث 68٪، كما أن أكثر من نصف الجيش العراقي كان من الشيعة، حيث لم يكن الانتماء المذهبي هو المعيار الأساس في عملية الاختيار للمنصب، قدر ما كان هذا المعيار يقوم على الولاء للحزب والنظام والرئيس.
وجاء الاحتلال الأمريكي، وتم حل مؤسسات الجيش والأمن والحزب، في أيار/مايو 2003، وصدر قانون «اجتثاث البعث» الذي توحي تسميته بكم كبير من طاقة الحقد والانتقام، ومع انهيار مؤسسات الدولة في عملية مقصودة كان طبيعياً أن يلجأ الأفراد إلى الطائفة للحماية مقابل الولاء، وهذه هي الوصفة المباشرة لأية حرب أهلية تحل فيها الميليشيات والطوائف محل الدولة والنظام والقانون.
وقد كانت الحرب الطائفية هدفاً أمريكيا إيرانياً مشتركاً في العراق، بعد أن تم تنسيق الأدوار بين البلدين في بناء مؤسسات حكم تقوم على المحاصصة الطائفية أو على الطائفية السياسية، حيث لم يكتف بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق آنذاك بحل مؤسسات الدولة العراقية حينها، بل قام بتشكيل مجلس الحكم في تموز/يوليو عام 2003 على أساس طائفي بحت، وتم توزيع أعضائه الخمسة وعشرين على مختلف المكونات الطائفية، لتهبط المحاصصة على مستوى الوزارات والإدارات المختلفة، قبل أن تأتي صياغة دستور عام 2005 الذي وزع المناصب العليا في الدولة على أساس طائفي وعرقي، فأعطى أهم المناصب في الدولة (رئاسة الوزراء) للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة ورئاسة الجمهورية للأكراد.
ولكي يظل التوازن الطائفي مختلاً لم ينظر للأكراد على أساس طائفي باعتبارهم سنة إجمالاً، بل عوملوا على أساس عرقي، وأما العرب فلم يعاملوا على أساس قومي، ولكن عوملوا على أساس طائفي، فتم تقسيمهم إلى سنة وشيعة، من أجل تعميق الانقسامات التي كرسها السماح بإنشاء أحزاب على أساس طائفي في البلاد، وأتيحت الفرصة لـ«فرق الموت الشيعية» وتنظيمات مثل «القاعدة في بلاد الرافدين» لتكمل المهمة التي تم التخطيط لها بعناية، وهي المهمة التي صممت لها دعاية إعلامية هائلة.
وجاء تفجير ضريح «الإمامين العسكريين» في سامراء بداية 2006، الذي تم تدبيره بعناية، ليفجر أعتى موجات الانتقام والتطهير الطائفي، ثم جاءت عمليات التصفيات والفرز الطائفي، الذي جعل أحياء بأكملها تخلو من السنة وأخرى تخلو من الشيعة، من أجل إيصال العراقيين إلى القبول بفكرة الفدرالية الطائفية.
وإذا أخذنا دولاً عربية أخرى تدخلت أمريكا فيها لصالح «الربيع العربي» و«الفوضى الخلاقة» نجد أن ثمرة هذا التدخل كانت حروباً طائفية، أصبحت السطوة فيها للجماعات المسلحة لا للدولة، كما نلحظ في اليمن ولبنان وسوريا التي تأخذ الدولة فيها طابعاً شكلياً، فيما السلطة الحقيقية لجماعة أو جماعات مسلحة متعددة.
وضمن هذا السياق يمكن فهم الطرق المختلفة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية في استهداف ميليشيات ودول المنطقة، حيث تحرص على ألا يكون ذلك الاستهداف مخلاً بالتوازن الطائفي الضروري لاستمرار الصراع الذي جاء ضمن سياق مشاريع «الفوضى الخلاقة» في المنطقة.
وإذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد أعطى إيران فرصة لا تعوض للتوسع الإقليمي، فإن «الربيع العربي» قد مكن لطهران من الانطلاقة التي مكنتها من بناء «مصدات ميليشياوية» لها في عدد من البلدان العربية، تقيها من وصول النار لأراضيها، وتشكل تهديداً وعوامل ابتزاز لصالح طهران، وهنا يستحيل علينا تصور أن كل تلك التطورات لم يكن مخططاً لها، لتشكل إيران قلقاً أمنياً للخليج يجعله باستمرار في حاجة للدعم الأمريكي، وبالتالي عرضة للابتزاز، ناهيك على الهدف الأمريكي المتمثل في دفع دول المنطقة في اتجاه التطبيع مع إسرائيل.
وقد كان التقدير الأمريكي بأن إيران ستقوم بدور محرك الحروب الطائفية في المنطقة، كان هذا التقدير صائباً، لكن أمريكا لم تقدِّر أن إيران ستسعى للتوسع الكبير الذي بدأ يهدد مصالح واشنطن، ووصل في تأجيج الحروب الطائفية إلى الحد الذي يعرقل خطط أمريكا للخروج من صراعات الشرق الأوسط، والتفرغ لمواجهة الصين.
وفي السنوات الأخيرة شعرت أمريكاً بأن الحروب الطائفية في المنطقة قد خرجت عن السيطرة، وأنها أعطت لإيران اليد الطولى، فبدأ كبار المسؤولين الأمريكيين يخططون لإنهاء ما بات شعاراً لإدارة الرئيس جو بايدن في «إنهاء الحروب الأبدية» التي تعيق بالفعل سياسات الإدارة التي تريد مواجهة الصين التي تختبئ بشكل جيد وراء إيران التي تختبئ بدورها وراء ميليشياتها الطائفية في البلدان التي حرصت كل من أمريكا وطهران على السواء على أن تكون ميليشياتها أقوى من حكوماتها.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم