يحبّ الفلسطينيون، ككل البشر على هذه الأرض، الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا. وهم كبعض البشر، على هذه الأرض، يرقصون بين شهيديْن، ويرفعون مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا. حدث ذلك دائما، وبعيداً عن مجاز محمود درويش الشعري الجميل هذا، وربما قريبا منه أيضا، بل تفسير له وانغماس فيه حتى حدود الوعي، هم فعلوا ذلك، ويفعلونه دائما في كل اختبارات الحياة ونداءات الموت أيضا كما يحدُث الآن في غزّة، حيث الموت يبدو هو المهيمن شكلا في فضاء المدينة وما حولها، ولكنه واقعا هو الطريق أيضا إلى النجاة تاريخا ومستقبلا.
وربما يفسّر هذا لنا شغف الفلسطينيين بفلسطين، فكرة قبل أن تكون وطنا حقيقيا تاريخيا وواقعيا لهم. فلسطين التي نعرفها رمز لمعادلات الحقّ والباطل، والقوة والضعف، والموت والحياة.. هي بالنسبة لأي فلسطيني الحياة كلها. وهي بالنسبة لنا من بعدهم الحلم بحياة عالية في المبادئ والقيم التي تنتصر، لا بد أن تنتصر، أخيرا على كل ما هو سُفلي ودنيء!
ولأن الحياة مليئة بالامتحانات الصعبة، فقد تخصّص الفلسطيني، المبهر دائما في حرصه على النجاح والتفوّق بكل امتحان، أن ينجح في امتحانه الأصعب. امتحان فلسطين. ولا نكاد نجد فلسطينيا واحدا، وإن اختلفت الرؤى، وتباينت الاجتهادات، وتنوّعت الأمزجة، وتعدّدت الخيارات، وتعارضت الأسباب، ساقطا في امتحان فلسطين المستمرّ منذ أكثر من سبعة عقود. ذلك أنه الامتحان الذي يوحّدهم مع بعضهم بعضا، ويوحّدنا معهم في طيفٍ واحدٍ لا يكاد يحيد عن طريقه في النجاة من أي مؤامرةٍ عابرةٍ على سبيل التغيير هنا أو هناك.
وفلسطين اليوم، وبإرادتها الحرّة، وتوقيتها المناسب، وأسلوبها الخاص بكتابة امتحانات المقاومة الشعبية، تعيد الامتحان المستمرّ، وإن توارى قليلا في السنوات الأخيرة، من جديد، بعنوان غزّة. المدينة التي قدّر لها أن تكون عاصمة مؤقّتة للقرار الفلسطيني الشعبي في مقاومتها الصهاينة وتصدّيها لهم ليس على أرضها وفي غلافها وحسب، ولكن أيضا في العالم كله. وهو الامتحان الذي اكتشفنا أنه أصعب من كل التوقّعات، ولكن إجاباته، حتى هذه اللحظة، هي الأسهل.
نعم.. لقد قرّرت غزّة أن تتخرّج من غلافها الصهيوني كشرنقة استعدّت جيدا للحياة، وها هي لم تتجاوز حدود المستوطنات التي حاولت خنقَها بحزام ناريٍّ شديد الإحكام وحسب، بل تتمدّد في كل شوارع العالم، عبورا للبحار والأنهار والمحيطات والقارّات وفي معظم المدن؛ فهماً ووعياً وتعاطفاً ومظاهرات واعتصامات ووقفات ومسيرات تتوشّح بالكوفية الفلسطينية، وترفع راية الأبيض والأسود والأخضر والأحمر، وتعلن عن اسمها وهويتها وعن تاريخها وماضيها، وعن أسماء أبطالها وشهدائها، وعن كل دمار جرّاء القصف الصهيوني لحق ببيوتها ومؤسّساتها وشوارعها ومدارسها ومساجدها وكنائسها وأشجارها، لا باعتبارها غزّة، قلب القطاع المحاصر منذ عقد ونصف العقد وحسب، بل باعتبارها كل فلسطين، من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش، بغضّ النظر عن كل اتفاق سابق تبرقع بالسلام وتقنّع بالجوار زورا وبهتانا.
فهذه هي فلسطين الكبيرة الكاملة الموحّدة المستثناة من حدود الخرائط، كما نتذكّر ونعرف ونحلم ونريد، التي تتصدّى اليوم لقوات الكيان الصهيوني في قطاع غزّة. وها هي فلسطين التي يستشهد اليوم أبناؤها اعتزازا بالأرض، لا كرها بالحياة، وعشقا لفكرة الوطن، لا انسحابا من الاستحقاق، وعشقا لاسم فلسطين، لا تمسّكا بكل ما يمكن أن يكون خارج هذا الاسم، حتى لو كان الحياة نفسها... فهكذا تحديدا يحبّ الفلسطيني الحياة.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
تجويع غزّة وليس جوعها
الجريمة المسكوت عنها
المقاومة بأضعف الإيمان