«لست في حاجة إلى أن تكون فلسطينيا أو عربيا أو مسلما لتتضامن مع القضية الفلسطينية وتندد بالاحتلال الإسرائيلي»… هكذا تم الرد على ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن ذات يوم من أن المرء ليس في حاجة إلى أن يكون يهوديا كي يكون صهيونيا ومواليا لإسرائيل. أكثر من ذلك، أظهرت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في عديد الدول الغربية أن عددا لا بأس به من اليهود ليسوا بالضرورة صهاينة ومن مؤيدي إسرائيل.
هذه المظاهرات التي خرجت كذلك ردا على وقوف معظم الدول الغربية مع السياسات الهمجية لدولة الاحتلال، في مفارقة أظهرت تهاوي القيم التي تفتخر بها وحجم النفاق الذي طبع مواقفها مقارنة بنزاعات دولية مختلفة، أبرزها حرب روسيا على أوكرانيا، أبرزت بشكل واضح جدا جيلا جديدا من الشباب في الدول الغربية لم يعد يركن لما تربى عليه من مسلّمات تتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي، ولا لما دأبت عليه حكوماتهم المتعاقبة من وقوف دائم وآلي مع كل عدوان إسرائيلي، ولا لما استسهله إعلامهم، وما يزال، من تضليل ونفاق عبر قوالب متكرّرة من الانحياز الأعمى ضد كل ما هو عربي ومسلم.
ما الذي جعل شبابا غربيين من الجنسين في نيوزيلندا وأستراليا واليابان وكندا والولايات المتحدة وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا والدانمارك والسويد وغيرها يخرجون إلى الشوارع وقد ارتدوا الكوفية وحملوا الأعلام الفلسطينية واللافتات المندّدة بالجرائم الإسرائيلية؟ ما الذي جعلهم يتمرّدون عن التسليم السابق بالسردية الإسرائيلية للنزاع بشكل عام ككل وبالسردية الحالية للعدوان على غزة؟ ما الذي جعل هؤلاء الشباب الذين كان بعضهم بدأ هذا النوع من التحركات في حرم الجامعات والكليات وبعض جمعيات المجتمع المدني يقررون الخروج هذه المرة إلى الشوارع؟
ما الذي جعلهم لا يكتفون بذلك بل تراهم ينشطون بشكل كبير على مواقع التواصل فيبثون مواد تظهر هول ما يجري في غزة، خاصة ضد الأطفال والنساء، ويدخلون في نقاشات حامية الوطيس مع مؤيدي إسرائيل لتفنيد رواياتهم؟ ما الذي جعلهم ينفرون بشكل متزايد من إعلامهم الذي باتوا يتهمونه بأنه غير نزيه أو صادق في نقله لأحداث غزة مما جعل منسوب الثقة فيه في تراجع مستمر كما أظهرت ذلك عمليات سبر الآراء في الولايات المتحدة مثلا؟
الجواب على كل ذلك أن هذا الجيل من الشباب في الدول الغربية لم يعد أسيرا للرواية الواحدة التي كانت تفرضها المؤسسة الرسمية عبر إعلامها وتعليمها وسياسييها ومعظم أحزابها، بل بات حرا طليقا يحلّق في فضاء المعلومات المفتوح فبحث ونبش في تاريخ الصراع ليقف تدريجيا على الرواية الحقيقية لآخر استعمار مباشر ما زال قائما في عالمنا هذا، والذي ما كان ليكون وليستمر لولا وقوف قوى استعمارية غربية معه من بريطانيا وصولا إلى أمريكا وكل حلفائها. حتى أن دولا كانت لها رؤيتها الخاصة ومواقفها المتميّزة والمنصفة إلى حد كبير، مثل فرنسا ديغول وإيطاليا الاشتراكية، لم يعد لها اليوم أي تميّز حين اصطفت بالكامل في الطابور الأمريكي.
ما يلفت الانتباه، والإعجاب كذلك، أن جزءا لا بأس به من هذا الشباب هو يهودي، استطاع أن يجد الشجاعة الكافية والنزاهة الأخلاقية الضرورية والحس الإنساني النبيل ليفك ارتباطه بالنظرة المتحجّرة تجاه العرب والفلسطينيين وأن يعيد النظر في كل ما نشأ عليه من تبن للرواية الاستعمارية الصهيونية، ليصدع بكل ما عرفه بعد أن فتح عينيه على الحقائق التاريخية التي غـيّبت عنه عمدا ليرى في النهاية الصورة كاملة بعيدة عن الدعاية التي أمطر بها لعقود.
هذا الشباب اليهودي، وكثير منه من الفتيات، لم يكتف بتغيير نظرته وقناعاته والمضي في حال سبيله بل توجّه إلى تسجيل مقاطع فيديو وبثها على مختلف مواقع التواصل في ما يشبه تحريض أقرانهم على أن يحذوا حذوهم في هذه المراجعة الجريئة التي لم يريدوا لها أن تكون شخصية بل يسعون إلى جعلها تيارا شبابيا متناميا ومؤثرا.
هذا التيار الشبابي الغربي، بمسيحييه ويهوده، دون أن ندخل في الحسبان الشباب العربي والمسلم الذي نشأ وترعرع في الدول الغربية المختلفة والذي جاءت الأحداث الأخيرة لترسّخ ولاءه لفلسطين أو تنفض عنه الغبار ولتبيّن مدى تجذّر القضية في وجدان جميع العرب، هو قوة جديرة بالرصد والاهتمام لأنه سيشكّل تدريجيا قوة ضغط سيقرأ لها ألف حساب، ليس فقط في إحداث نوع من اليقظة لدى جزء من الرأي العام في أماكن تواجده، وإنما أيضا في تحوّله لاحقا، شيئا فشيئا، إلى قوة انتخابية قادرة على تغيير الكثير من السياسات الرسمية الغربية الحالية.
بمثل هذا التيار الشبابي الغربي النشيط والضاغط والواعد، استطاع الرأي العام الدولي قبل بضعة عقود أن يعي قبح نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا وينهيه، فما بالك إذا كان مسلحا، في الحالة الفلسطينية هذه المرة، أكثر من سابقه بسلاح المعرفة والإعلام وتكنولوجيات الاتصال فليس هناك أقوى من الحقيقة لتدمير الدعاية والأكاذيب.
*القدس العربي
اقراء أيضاً
كتاب فرنسي عن السابع من أكتوبر
وائل الدحدوح… هذه الأيقونة
«حل الدولتين».. مرة أخرى؟!