يرافق دورات الصراع في اليمن، وأحياناً يعقبها، مسار موازٍ يؤسّس لإفلات المجرمين من العقاب ويشرعنه، إذ تتم مقايضة جرائم طرف مقابل جرائم الطرف الآخر، سواء من خلال تفاهماتٍ سياسيةٍ في إطار سلطة المنتصرين، أو تسويات المرحلة الانتقالية، الأمر الذي أدّى إلى الإخلال بمبدأ العدالة وتكريس معاناة ذوي الضحايا. ومع أن استمرار الحرب وتعقيداتها يقوّض أي معطياتٍ لتأسيس مسار انتقالي، ناهيك بتحقيق العدالة، فإن أطراف الصراع المحلية والإقليمية، بما في ذلك المجتمع الدولي، تستغل حالة تعويم الأزمة اليمنية للتهيئة لتسوياتٍ مستقبليةٍ قد تشمل جرائم المنتهكين.
تاريخياً، لعبت السلطات المتعاقبة والأحزاب السياسية دوراً رئيساً في تعطيل العدالة، كونها طرفا في هذه الصراعات، فيما أسهمت إعاقات الواقع المجتمعي حينها في عدم تبلور حامل مدني محايد، يتبنّى حقوق الضحايا ويفرضها في أي تسويةٍ سياسية، إلى جانب غياب الأطر القانونية بتشريعاتها ومؤسّساتها التي تضمن سير العدالة. وأدّت هذه الأسباب إلى التفريط في حقوق الضحايا، مقابل تحوّل السياسي المنتهك إلى ممثّل عنهم، ومن ثم تسييس ملف الضحايا الذي اتخذ أشكالا مختلفة، إلا أن عكس الأهداف ذاتها، وهو تمرير جرائم المنتهكين مقابل مقايضته بمكاسب سياسية، بما في ذلك توظيفه من القوى التي احتكرت تمثيله. ويمكن تتبع ذلك من دورات الصراع في شمال اليمن وجنوبه وحروب النظامين، إلى حرب صيف 1994 وحروب صعدة، وكذلك ثورة 2011، حيث قايض "اللقاء المشترك" ملف ضحايا المظاهرات بشراكته في السلطة، ترتّب عليه منح الرئيس السابق علي عبدالله صالح الحصانة، فيما استخدمت جماعة الحوثي ضحايا حرب صعدة في سياق تعبئةٍ طائفيةٍ أسقطت الدولة اليمنية لاحقاً. ووظّفت القوى الجنوبية الانفصالية وما زالت ضحايا حرب 1994 كمطية لتحقيق أهدافها الانفصالية.
وإلى جانب إعاقات الحامل السياسي، أدّى الخلط المتعمّد ما بين المصالحة، بصفتها مصطلحا سياسيا، استخدمته القوى والسلطات لتمرير جرائمها وتكريس حالة تواطؤ مجتمعية، ومفهوم العدالة الانتقالية، بنية سياسية ومجتمعية ومدنية تقتضي إجراءات واضحة تضمن حقوق الضحايا في تمييع الحقّ الشخصي. وبالتالي، حرمانهم من العدالة، فضلاً عن فساد الحامل المدني، ممثلاً بالمنظّمات المحلية التي كانت جزءا من تشوّهات السياسيّ. وإذا كانت إعاقات تحقيق العدالة تمت في سياق دورات صراع محلي، يمني - يمني، أطرافها محدّدة، فإن تعطيل العدالة في حربٍ مستمرّة أكثر شمولاً وتعقيداً.
يقتضي إيجاد مسار انتقالي توفر شروطه على الأرض وتأسيس بنيته التي تعمل على تقويض الحالة الصراعية، بما يؤدّي إلى تحقيق العدالة للضحايا، إذ إن العدالة منظومة متكاملة تعمل معا لتكييف أدواتها لضمان إجراءات التقاضي والمساءلة، من السياسيّ إلى المؤسّسات والتشريعات وكذلك الحالة المجتمعية، بيد أن الراهن اليمني يتعارض مع أي مسارٍ انتقالي يقتضي توقف الحرب وتفكّك سلطاتها وتشكيلاتها العسكرية، إذ إن ترتيبات القوى الدولية والإقليمية لإدارة الملف اليمني، وإن راهنت على استقرار الوضع العسكري، وتثبيت سلطات الحرب في مناطقها، باعتباره معطى انتقاليا لتحريك الملفّات الشائكة، وأهمها ملفّ الضحايا، فإن هذه السياسات جذّرت الصراع، ومن ثم ضاعفت من الجرائم التي يتعرّض لها اليمنيون، من استهداف جماعة الحوثي المدنيين في مدينة تعز، إلى ضحايا الألغام في المدن اليمنية، ناهيك بالقصف المدفعي السعودي في المناطق الحدودية، كما أن تحوّل المنتهكين إلى سلطات أمر واقع منحها غطاء سياسيا، وأدوات متنوّعة للتنكيل باليمنيين، إلى جانب أن استمرار العنف واتساع رقعته يعيقان إمكانية عمل رصد حقيقي ودقيق يغطّي الجغرافية اليمنية منذ بداية الحرب، فضلا عن تنوّع الجرائم التي تتعدّى القتل جرّاء آلة الحرب، والصراعات البينية، إلى تدمير المؤسسات الحكومية والخاصة وتفجير المنازل، والتهجير القسري، والإخفاءات القسرية، والاغتيالات، وهو ما يعني تنوّع (واختلاف) طبيعة المعالجات المستقبلية في قضية العدالة الانتقالية.
كما أن تآكل البنى المجتمعية والمدنية التي يعوّل عليها لتبني تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا يقوّض، على المدى البعيد، إمكانية أن تتحوّل إلى حامل يتبنّى مصالحهم، إلى جانب غياب التشريعات والقوانين التي لا بد من تكييفها مع حالة الحرب في اليمن، باعتبارها صراعا محليا وإقليميا، إذ أدّت طبيعة الصراع متعدّد القوى إلى غياب أرضية قانونية متفق عليها تكيّف هذه الجرائم، وتحدّد بناء عليه القنوات الرسمية لمساءلة أطرافها، وتحديداً الأطراف الإقليمية، فضلاً عن تسييس جرائم الحرب، بيد أن أطراف الحرب تراهن على إجراءاتها وطرق إدارتها ملف الجرائم والانتهاكات، وكذلك على الوضع الدولي الحالي الذي يخدم أغراضها.
سياسياً وقانونياً، أدارت أطراف الحرب ملفّ جرائم الحرب في اتجاهين: عزل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية، مقابل تسييس جرائم خصومها، لاستثمارها أو مقايضتها مستقبلاً، يدعمها في ذلك التشظّي السياسي الذي يعني غياب فرص تشكّل سلطة وطنية تتبنّى إنصاف الضحايا، على اختلاف مناطقهم، واختلاف القوى المنتهكة، إلى جانب النتائج المترتبة على إدارة المجتمع الدولي الملفّ اليمني، سياسياً وإنسانياً وبالطبع حقوقياً، ما منح أطراف الحرب وسائل عديدة لتسييسه، ومن ثم تكييفه لصالحها.
محلياً، عملت أطراف الحرب من خلال مؤسساتها القانونية على تثبيت قوائم القتلى المحسوبين عليها، إحصائيا، وإن ركّزت على المنتمين لعصبتها المناطقية أو الطائفية. ترتّب على ذلك إغفال القتلى غير المنتمين لقوى الحرب. إلى جانب ذلك، عوّمت تصنيف الضحايا، وذلك بتكييفهم ضحايا مدنيين، وإن كانوا مقاتلين قتلوا في جبهات الحرب، وذلك بهدف ضمّهم مستقبلا في إجراءات العدالة الانتقالية وجبر الضرر والتعويض، إضافة إلى توظيف ملفّ الضحايا لاستثماره ومقايضته، ففي حين أطّرت جماعة الحوثي جرائهما بحقّ المدنيين في المدن اليمنية، باعتبارهم ضحايا نزاع محلي، مقابل تحميل خصومها المحليين المسؤولية القانونية والأخلاقية، فإنها قدّمت نفسها حاملا سياسيا لضحايا غارات التحالف العربي في اليمن، وذلك بهدف استثماره في أي تفاهماتٍ سياسيةٍ مع السعودية، للحصول على تعويضات مالية، بحيث جعلت من نفسها السلطة المخوّلة بإدارة هذا الملفّ، وهو ما سيترتّب عليه ليس فقط الإضرار بحقوق الضحايا، وإسقاط حقّهم بالعدالة من خلال اختزالها في جانب التعويضات، بل حرمانهم من مقابل استفادة الجماعة.
ومن جهة أخرى، عمدت السلطة الشرعية، سابقا، المجلس الرئاسي حالياً، إلى تسييس ملفّ الضحايا؛ من حصرها في جرائم جماعة الحوثي، إلى تجاهل جرائم حلفائها الإقليميين، ما يعني إسقاطهم من مسؤوليتها بوصفها سلطة، ناهيك بتجاهل جرائم القوى المنضوية في سلطتها. وإذ كانت جماعة الحوثي لا تقرّ، بوصفها جماعة مليشياوية، بانتهاكاتها، فإن التجربة التاريخية لقوى المجلس الرئاسي، سواء كأحزاب أو كسلطة، تبيّن أنها انخرطت في صفقات ومقايضات أسقطت حقوق الضحايا مقابل شراكتها في السلطة، ولتجنّب مساءلتها عن جرائمها في دورات الصراع والحرب المتورّطة فيها، بمن في ذلك شركاؤها، ما جعلها تعتمد سياسة المقايضة وإغلاق الملفات، سواء في تفاهمات بينها، أو بين جماعة الحوثي.
من جوانب عديدة، أسهمت إدارة المجتمع الدولي الملفّ اليمني في تكريس حالة تعويم سياسي وأخلاقي لتحقيق العدالة، بحيث صبّت في صالح المنتهكين الإقليميين، إذ إن تسييس انتهاكات السعودية والإمارات في اليمن وتوظيفها ورقة ضغط وابتزاز سياسي جعلا الضحايا أداة لتحقيق المكاسب السياسية، وأيضا الاقتصادية، مقابل حرمان الضحايا المدنيين من أطر قانونية دولية تتبنّى تحقيق العدالة وإنصافهم. فيما حصرت أدوات الضغط على المنتهكين الإقليميين بالجانب العسكري، بوقف تسليح السعودية والإمارات، وذلك بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، فإن هذه الإجراءات، وإلى جانب كونها آنية، لم تترتّب عليها نتائج ملموسة تُنصف الضحايا اليمنيين. وإذا كان الوضع الدولي والإقليمي منذ بداية الحرب في اليمن ظل يؤسّس لحالة إفلات المجرمين من العقاب، فإن التحدّيات الحالية، الأمنية والاقتصادية، والتقاء المصالح وتقاطعها بين الحلفاء الدوليين والمتدخّلين في اليمن، ستعمل باتجاه عزل الملف اليمني، وتحديدا جرائم المتدخّلين.
في حرب مستمرّة، تحصد يوميا أرواح اليمنيين، لا يبالي المتحاربون والمجتمع الدولي باستمرارها آلة عنف مستدامة، بل بتطويق ملفّاتها السياسية والإنسانية. ومع أن من المبكر مقاربة الاتجاهات والأطر التي قد يدار وفقها ملفّ الضحايا، وهو ما سيكشفه قادم الأيام، فإن مقايضة المأساة اليمنية لصالح ترضية الأقوياء قد تدفع المجرمين إلى التقارب بغرض طمس جرائمهم بحق اليمنيين.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
صنعاء... صفقة السموم الإسرائيلية