في 2007 بدأ حراك في محافظات اليمن الجنوبية يطالب بتجاوز آثار حرب 1994 التي كانت بين قوات الحكومة اليمنية إبان حكم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وقوات مؤيدة لنائبه الأسبق علي سالم البيض الذي أعلن الانفصال وفك الارتباط عن دولة الوحدة التي ولدت يوم 22 مايو 1994.
تزعم الحراك – حينها – شخصيات جنوبية لها وزنها الذي اكتسبته من جهتين: الأولى نضالها المستمر في سبيل قضية تؤمن بها، والثانية وهي الأهم نظافة اليد التي أكسبتها شعبية واسعة في محافظات جنوب اليمن، قبل أن يتحول الانفصال – مؤخراً – إلى مشروع استثمار شخصي يعتمد على التمويل الخارجي.
بدأ الحراك المطالبة بحقوق مجموعة من العسكريين الجنوبيين الذين تم إقصاؤهم عن وظائفهم مع نهاية حرب 1994، وظل في حالة تصاعد مع تحول الحقوق المطلبية إلى مطالب سياسية، وعندها اتخذ الحراك منحى آخر تمثل في مطالبته بفصل جنوب اليمن عن شماله، واستعادة الدولة التي كانت قبل توحيد شطري اليمن عام 1990.
وكأي تيار يتحول من المطالب الحقوقية إلى المطالب السياسية دخل «الحراك الجنوبي» مرحلة التسييس، ومع دخول تلك المرحلة بدأت مرحلة التجاذبات السياسية، والخضوع للمؤثرات الداخلية والخارجية، والتحول من النقاء الثوري الذي كان يمثله قادته الأقدمون إلى مرحلة انتهازية ظهرت بشكل فاقع عند عدد من الانتهازيين الذين كانوا على أيام الرئيس السابق علي عبدالله صالح من كبار «الوحدويين» بل وكانوا من أشد مسؤولي النظام السابق تنكيلاً بالانفصاليين، قبل أن يتحول هؤلاء المسؤولون إلى «صقور انفصالية» مع مجيء المجلس الانتقالي الذي لقي دعماً إقليمياً واسعاً، والذي حاول تجميع كل المتناقضات داخل تشكيلته، الأمر الذي أتاح الفرصة لهؤلاء «الصقور» لتصدر المشهد، الأمر الذي شوه القضية في نظر قطاعات واسعة من جمهورها الذي رأى كيف يصبح الرجل وحدوياً ويمسي انفصالياً، حسبما تقتضيه المصلحة الشخصية لا الوطنية.
وقبل تشكل المجلس الانتقالي الجنوبي كانت «القضية الجنوبية» قد عولجت بشكل مستفيض أثناء نقاشات الحوار الوطني في صنعاء قبيل «غزوة» الحوثيين للعاصمة اليمنية في سبتمبر 2014، وتم التوافق في الحوار على شكل الدولة الجديدة والنظام السياسي الفيدرالي، وتمت صياغة الدستور الجديد، ولم يعد إلا أن يتم الاستفتاء عليه، ومن ثم الذهاب لانتخابات عامة ورئاسية بعد نهاية المرحلة الانتقالية، لولا أن الحوثيين دخلوا صنعاء، ودخلت البلاد معهم في مسارات من الحرب والدمار والانقسامات التي لا تزال تعمل جغرافياً وطائفياً في البلاد التي أنهكتها الحروب والصراعات.
وبالعودة إلى موضوع الحراك الذي دخلت كثير من فصائله ضمن تشكيلة «المجلس الانتقالي الجنوبي» الحالي برئاسة عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني عيدروس الزبيدي، والذي انضم له مؤخراً عضوا مجلس القيادة الآخران عبد الرحمن المحرمي وفرج البحسني، في تشكيلة عجيبة ينضوي من خلالها ثلاثة من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي لليمن الواحد ضمن المجلس الانتقالي الذي لا يؤمن بذلك اليمن الواحد، في تناقض يعكس حالة العبث الذي وصلت إليه البلاد.
ولأن هذه التشكيلات دخلتها الكثير من المؤثرات الخارجية فقد اضطرب أداؤها وتصريحات ممثليها، حيث لم يعد يُدرى ماذا يريدون بالضبط، سوى أنهم يرفعون شعارات بأهداف كبيرة لا يعرفون كيفية تحققها، ولا من يمكن أن يقف معهم لتحقيقها، لاستحالة التكييف القانوني لتقسيم بلد عضو في الأمم المتحدة و«التعاون الإسلامي» والجامعة العربية وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية والعربية، الأمر الذي أدى إلى تضاؤل شعبيتها بشكل كبير.
ومن التناقضات العجيبة الملحوظة على أداء تيارات الانفصال أن منتسبيها من جهة ينددون بشعار «الوحدة أو الموت» ومن جهة أخرى يمارسون فعلياً شعار «الانفصال أو الموت» لأن ما يجري اليوم ليس محاولة لفرض الوحدة بالقوة، بل محاولة لفرض الانفصال بالقوة المتكئة على الدعم الخارجي.
ثم إنهم يقولون إن مواجهة الحوثي تتطلب توحيد الجهود ضد انقلابه، ولكنهم يدعون إلى تقسيم الوطن، ويفجرون معارك تأخذ الجهود بعيداً عن هدف مواجهة الانقلاب. كما أنهم يطالبون بـ«تقرير المصير» للجنوب، على اعتبار أن ذلك حق مكفول بالقوانين الدولية، ولكنهم يرفضون ذلك الحق لأبناء محافظات جنوبية أخرى لا يرغبون في أن يكونوا ضمن مشروع «الجنوب العربي» على سبيل المثال.
والأدهى من ذلك أنه ومع الزمن تحول مشروع الانفصال إلى «مشروع استثمار شخصي» للأطراف الداخلية، ومشروع تخريب إقليمي للأطراف الخارجية، دون أن يصبح واقعاً ملموساً، لأن المستفيدين منه لا يريدون تحققه قدر ما يريدون استمراره دون نهاية، لغرض استمرار الفوائد المجنية، تماماً كما تقوم أية شركة بتمديد مشاريعها الفاشلة، لضمان استمرار تدفق أموال المشروع التي يمكن أن تنقطع مع اكتماله على أرض الواقع.
وعلى ذلك يمكن القول إن الإشكالية في اليمن ليست صراع وحدة وانفصال قدر ما هي صراع سلطة وثروة، وبما أن المسألة تكمن في الصراع على السلطة والثروة، فإننا يمكن أن نتخلص من كل مشاريع التقسيم الصغيرة إذا توصلنا إلى طريقة سلمية للوصول للسلطة وتقاسم الثروة على أسس ديمقراطية عادلة، وحينها ستختفي مفردات الوحدة والانفصال، وشعارات «الوحدة أو الموت» و«الانفصال أو الموت» لأن الهدف من كل تلك المفردات هو السعي لمشاريع استثمارية تغطيها المصطلحات البراقة، ولأن كل هذه المشاريع الصغيرة ـ (الانفصال الطائفي) في شمال اليمن أو (الانفصال الشطري) في الجنوب ـ ما هي إلا انعكاس مباشر لانهيار الدولة وغياب المشروع الوطني اليمني الكبير الذي أصبح البعض بفعل الخوف أو الطمع أو «التكتيك» يتجنب الحديث عنه.
وقد حققت تلك المشاريع الصغيرة للأسف تقدماً، ليس في اليمن وحسب، ولكن في أكثر من بلد عربي، بسبب غياب المشروع العربي الكبير، حيث إن ترك الساحة لتلك المشاريع يصيبها بالتضخم المؤذي لأصحابها قبل غيرهم، ذلك التضخم المرتبط بظروف خارجية، وللأهداف التي يريدها الخارج الأجنبي، لا الداخل الوطني، وبانقضاء الغرض من وراء هذا التضخم سيدرك أصحابه أن تضخيمهم كان لغرض في نفس يعقوب، ويومئذ يكون سقوط تلك المشاريع الصغيرة مدوياً بحجم خيبة الأمل الكبيرة فيها.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم