لمبدأ التوافق الإقليمي بوصفه مرجعا لتأسيس سلطة محلية خطورة تتجاوز الآني في سلطة الوكلاء، إلى تجذير إعاقات متعدّدة، من كونها الضامن لاستمراريتها إلى ارتهانها لسياسة حلفائها، إلى خضوعها لعلاقاتها البينية وتحوّلاتها، وهو ما يواجه سلطة المجلس الرئاسي في الوقت الحالي، إذ جذّرت سياسة حلفائه الإقليميين تصدّعه بوصفه سلطة انتقالية نتيجة تعارض سياستهم حيال دوره الوظيفي مقابل تنمية الوكلاء في إطار السلطة، فعلى الرغم من أن المجلس الرئاسي الذي تأسّس في إبريل/ نيسان 2022 ظلّ يحوي أسباب تفكّكه من تنافس قواه وتضارب أجنداتها، فإن توافق الحليفين الإقليميين حجّم إلى حدّ ما الخلافات البينية، إلا أن اتساع الفجوة بينهما قد يدفع إلى تصدّع المجلس الرئاسي وانفلات قواه المتربّصة بعضها ببعض، بما في ذلك احتمال لجوء الفاعلين إلى خيارات الردع وتأكيد النفوذ، ما يعني المضي في تشظي بلد ممزّق ومحترب.
عكس التوافق السعودي - الإماراتي في إدارة المجلس الرئاسي سياسات الوصاية الكاملة، وتجريد وكيلها سلطة من كل وسائل القوة، بما في ذلك القدرة على بلورة رؤاه وتحديد أولوياته سلطة انتقالية، إذ إن احتكار السعودية والإمارات قرار المجلس الرئاسي جعله سلطة ظلّ لحلفائه، بحيث أفقده الجاهزية والمراس للتعاطي مع متغيّرات الحالة السياسية اليمنية، وكذلك تقريب وجهات النظر بين قواه المتصارعة، بحيث ظلت السعودية والإمارات قناة الحوار المباشرة بين قوى المجلس، بما في ذلك تصريف نقاط خلافاتهم على التمثيل في أطر السلطة، إلى جانب حرمان المجلس الرئاسي من عوامل الاستقرار، وذلك بتقطير أشكال الدعم الاقتصادي وتوجيهه بحسب أجنداتهما، يُضاف إلى ذلك تباين مقاربة الحليفين حيال الوظيفة السياسية للمجلس في هذه المرحلة، فخلافاً لمحدّدات نقل السلطة إلى المجلس الرئاسي الذي رعته السعودية والإمارات، بأن يكون الطرف المقابل لجماعة الحوثي في العملية السياسية الانتقالية التي تُنهي الحرب، وأيضا السلطة المكلّفة بإدارة اليمن، فإن الحليفين حصرا دور المجلس في ترتيب أولوياتهما المستقبلية، مظلّة سياسيةً بالنسبة للسعودية لتأمين خروجها من اليمن ومن ثم إنهاء حربها، وغطاءً سياسيا يحظى بشرعية على الأرض بالنسبة للإمارات لإدارة نفوذها في المناطق الجنوبية.
بيد أن الأخطر من سياسة التفريغ والتعطيل التي يتبنّاها الحليفان حيال المجلس الرئاسي أنهما لا يدعمانه بوصفه سلطة موحّدة، وإن كانت مؤقتة، إذ عكست سياساتهما مستوياتٍ من التمايز ومن ثم تفضيل طرفٍ على حساب آخر، ودعمه عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، أي تنمية وكلاء متعدّدين، ما عمّق من تآكل بنية المجلس كسلطة، وإن افتقر لعوامل الانسجام والثقة المتبادلة، فإن سياسة الحليفين ضاعفت من اختلال التوازن بين قواه، بما في ذلك تصعيد الصراع على الموارد وتأمين سلطاتهم على الأرض، مقابل تعزيز الحليفين مكاسبهما الاقتصادية والاستراتيجية في جنوب اليمن، وإذا كانت فترة الانسجام بينهما قد حقّقت شكلا ما من توزيع النفوذ والسلطة في نطاق وكلائهما، وإن أتى على حساب تحجيم طرفٍ محلّي، فإن تنافسهما انعكس على سلطة وكلائهما، وانتقل إلى مستوى أكثر خطورة من تضارب الأجندات إلى تعارض المصالح وقنوات إدارتها.
بنت السعودية معادلتها في اليمن وفق أهداف تشكيلها المجلس الرئاسي بوصفه سلطة انتقالية تنظم عملية فك ارتباطها بالحرب في اليمن، مقابل ضمان الحليفين الإقليميين وحدة المجلس، بيد أن السعودية، للأسف، أدارت سياستها تبعا لامتيازات الولاء لها، ومن ثم لم تتعاط مع المجلس الرئاسي بوصفه سلطة موحدة، إذ إن سياسة تعزيز سلطة الوكيل الصاعد جعلها تركز دعمها على رئيس المجلس رشاد العليمي، الذي تنظر له حليفا قويا والأكثر مرونة لتنفيذ أجنداتها، فإلى جانب دعمه عسكرياً من خلال وضع قوات "درع الوطن" السلفية التي أسّستها تحت سلطته المباشرة، فإنها عمدت إلى دعمه سياسياً، مقابل توظيفه مشرعنا لاستراتجيتها في اليمن وتسويقها وسيطا للسلام، لا طرفا متدخّلا في الحرب.
ومع أن هذه السياسة القصيرة النظر أدّت إلى إخلالها بتوازن السلطات المتصارعة، وكرّست حالة الاستقطاب والتمايز، إلى جانب فشل السعودية في السيطرة على قوى المجلس تحت مظلّتها، فإنها لم تعد عليها بالمكاسب كما توقّعت، إذ إن اعتمادها على رئيس المجلس وكيلا كمركز قوى يعكس سياستها في اليمن، وإن كانت له أسبابه، فإنه ومع انتماء العليمي لحزب المؤتمر الشعبي العام، إلا أنه لا يشكّل ثقلا على الأرض، مع تشظّي المؤتمر وتعدّد زعاماته.
ومن جهة ثانية، تشتيت السعودية شبكة حلفائها التاريخيين، سواء من القوى القبلية أو السياسية ممثلاً بحزب التجمع اليمني للإصلاح، حرمها، وهي التي تراهن على الوكلاء، من توسيع دائرة نفوذها في المناطق الشمالية، كما أن تأييدها إزاحة "الإصلاح" من مدينة شبوة وجزء من مدينة حضرموت، وإن كان بهدف استرضاء حليفها الإماراتي، فإنه لم يكن عملياً في صالحها، وهو ما أدركته لاحقاً.
ومن جهة ثالثة، حرص السعودية على الخروج من اليمن بأي شكل جعلها تتجاهل المظلة المحلية التي تراهن عليها لتنفيذ ذلك، وأيضا ما قد يلجأ إليه حليفها الإماراتي الذي حيّدته السعودية من جولة التفاهمات مع جماعة الحوثي، فإلى جانب أن هذه السياسة صعّدت الخلافات بين قوى المجلس، فإن عزل حليفها الإماراتي من الملف اليمني، وبشكل خاص تفاهمات التسوية النهائية، لا يصبّ في صالح السعودية، خصوصا مع اشتداد حالة التنافس الإقليمي والدولي بينهما، إذ إن تنحية السعودية الإمارات شريكا إقليميا في ملفّات عدة، من إغلاق بؤر توتراتها مع دول المنطقة، وإقامة علاقات مع إيران، إلى اعتمادها على سلطنة عُمان التي أصبحت شريكا مرحليا لإنهاء حربها في اليمن، عمّق حالة القطيعة بين الحليفين السابقين. تُضاف إلى ذلك ارتدادات متغيّرات العلاقة بين السعودية وحليفها الأميركي، وأيضا القوى الغربية، قد تدفع الإمارات إلى استثمار نفوذها في اليمن لتعطيل أولويات السعودية في هذه المرحلة.
تكيّف الاستراتيجية الإماراتية أدواتها وسياستها في اليمن مع حماية مصالحها الحيوية في المقام الأول، سواء كان تحت مظلةٍ سياسيةٍ معترف بها أو باعتمادها على وكلائها، وإذ كان عداؤها للسلطة الشرعية سابقاً قد حرمها نوعا ما من حرية إدارة نفوذها بشكل معلن في المناطق المحررة، فإن انضواء وكلائها في سلطة المجلس الرئاسي، إلى جانب المرحلة الأولى من التوافقية مع حليفها السعودي قد منحها امتيازات عدة، من تعزيز نفوذها في المناطق الجنوبية من خلال الحكومة المتعرف بها دولياً أو كلائها في سلطة المجلس الرئاسي، إلى إقامة وضع خاص في المناطق الحيوية التي تنشط فيها، من الموانئ الجنوبية والجزر، جزيرة سقطرى وجزيرة عبد كوري حاليا.
ولذلك سلطة المجلس الرئاسي بالنسبة للإمارات غطاء سياسي لا أكثر لحماية نفوذها في اليمن. وقد وفّر هذا الغطاء أيضا لها تنمية وكلائها، مقابل تجريف حزب الإصلاح في سلطة المجلس الرئاسي، وتشتيت وكلاء السعودية عموما، ففي المناطق الجنوبية، استطاعت عبر تحوّلات المعادلة العسكرية والسياسية أيضا تقليص الفاعلين المحليين، ومركز سلطة وكلائها من المجلس الجنوبي الانتقالي إلى قوات العمالقة السفلية، ومن جنوب اليمن إلى شماله، استطاعت عبر إدارة سلطة وكيلها ممثلا بقوات العميد طارق محمد صالح الحضور في مناطق استراتيجية مهمة من الساحل الغربي إلى باب المندب، إلى جانب استقطاب بعض القواعد الشبابية الحزبية بشقيها اليساري والقومي والمؤتمري في مناطق شمال اليمن، على عكس السعودية التي فشلت في تثبيت وكيل لها في جنوب اليمن، عدا بعض المجاميع الأسرية التي تحتفظ بولاء تاريخي لها في حضرموت وبعض الجيوب في مدينة المهرة.
ومن ثم، المجلس الرئاسي بالنسبة للإمارات ليس أكثر من مظلة سياسية لإدارة نفوذها، ومن ثم لا يهم بقاؤه أو تصدّعه، إذ إنها في كل الحالات لن تخسر شيئا. ولذلك دفعها تصاعد تنافسها مع حليفها السعودي إلى الضغط بوسائل أخرى، وتمثل خطوات وكيلها الانتقالي أخيرا مؤشّراً لمدى توتر علاقة الحليفين، إذ أعلن تأسيس سلطة تنفيذية في جنوب اليمن، ضمّت عضوين من نواب المجلس الرئاسي، القائد السلفي عبد الرحمن المحرمي، قائد قوات العمالقة المدعومة من الإمارات، والذي أعلن ضمنيا من أبوظبي تأييده لـ"الانتقالي"، وفرج سالمين البحسني، محافظ حضرموت سابقاً، وإن لم يعلن موقفه من ضمّه لسلطة "الانتقالي"، والعميد هيثم قاسم طاهر، وزير الدفاع الأسبق، وعضو اللجنة الأمنية والعسكرية التي شكلها العليمي لتوحيد القوات العسكرية التابعة لقوى المجلس، إلى جانب إعلان "الانتقالي" ضم الوزراء الجنوبيين في حكومة المناصفة إلى سلطته، أي تأسيس سلطة أمر واقع. وإذا كانت ولاءات هذه القيادات، بأطرها السياسية والعسكرية، بما في ذلك تمويلها من الإمارات، فإن هذه الخطوة تهدف إلى إرباك حليفها السعودي، وتأكيد قدرتها على تقويض المجلس الرئاسي بوصفه سلطة انتقالية، والذي تعوّل عليه السعودية لتأمين خروجها من اليمن.
تزعزع سلطةٍ متعدّدة الرؤوس منقسمة ومتجاذبة لها أجنداتها، ولها داعموها الإقليميون، مسألة وقت، وسقوطها سيكون كارثياً وإن لم يكن مفاجئاً، وإذا كان تصاعد حدّة التصدّعات بين الحليفين الإقليميين جعلهما يتمترسان حيال تنمية وكلاء منفردين لا كسلطة واحدة، فإن وسائلهما في تغذية الصراع البيني لا تختلف، إذ كان الردّ السعودي، على تأسيس "الانتقالي" سلطة تنفيذية بدعم حليفه الإماراتي، بدعم سلطة رئيس المجلس الرئاسي، والإشراف على إعادة انتشار قوات درع الوطن السلفية الموالية لها في بؤر التوتر في وادي حضرموت، ونقاط التماسّ في نطاق جغرافية جنوب اليمن مع جبهات مأرب، ومنافذها الحدودية. في المقابل، اتّجهت الإمارات إلى دعم خيارات وكيلها "الانتقالي" من خلال إيجاد لوبي في واشنطن، يدعم المطالب الانفصالية، من خلال الاعتماد على شركة أميركية لإيصال رؤية "الانتقالي" في قنوات صنع القرار الأميركي.
وفي حين لا يملك "الانتقالي" القدرة المالية لدفع مبلغ التعاقد مع الشركة، ناهيك عن تشكيل لوبي سياسي في واشنطن يدعم أهدافه الانفصالية، فإن الإمارات هي التي موّلت هذه الاستراتيجية وتبنّتها. وبعيدا عن خط التقاء الإمارات مع أميركا، بما في ذلك بريطانيا التي تحضر في جنوب اليمن، لسياقاتٍ تاريخية قد ترجّح طرفا على آخر بمقتضى أولوياتها أيضا، وبعيدا عن نتائج تقاطعات المصالح وتعارضها، فإن الأكيد أن استثمار يمن متشظٍّ وبلا سلطة وطنية هو في صالح جميع الدخلاء والسماسرة.
*نقلا عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
صنعاء... صفقة السموم الإسرائيلية