في تحوّل لافتٍ في الأزمة اليمنية، دفعت جهود الوساطة العُمانية، أخيرا، إلى انعقاد أول جولة مباحثات رسمية بين قائدة التحالف العسكري في اليمن، السعودية، وجماعة الحوثي، المدعومة من إيران، حيث زار وفد سعودي في التاسع من إبريل/ نيسان الحالي العاصمة صنعاء لعقد مشاوراتٍ مع قيادات الجماعة، بهدف تجديد هدنة وقف إطلاق النار المنقضية، وتوسيعها لتمهد لاستئناف المشاورات اليمنية – اليمنية.
ومع أن الجولة الأولى من المباحثات لم تسفر عن نتائج ملموسة، حيث جرى تأجيل المباحثات إلى جولةٍ مقبلة، إلا أن هذا اللقاء، بحد ذاته، حوى مضامين سياسية، باعتباره، في المقام الأول، تطبيعا سياسيا بين الطرفين، له نتائجه، سواء في طبيعة المسارات السياسية مستقبلا أو في التحالفات المحلية وتحرّكها، فإلى جانب توظيف الطرفين لتطبيع العلاقة وأهدافها، فإنه عكَس مستوياتٍ من الخلافات البينية والمخاوف بين الشركاء حيال الجولة المقبلة من المفاوضات، وما ستفرضه على الأرض من واقع جديد.
استطاعت السعودية بوصفها طرفا رئيسا في حرب اليمن قطع شوط باتجاه حلحلة أهم الملفّات الأمنية بالنسبة لها، وذلك بعد إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، ومن ثم كان الذهاب إلى صنعاء العاصمة التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، وكيل إيران في اليمن، الخطوة الأخيرة في لعبة صراعات الدّمى مع منافسها الإيراني، وإنْ كانت هذه المتغيّرات فرضتها التحوّلات الدولية والإقليمية في المنطقة، إلى جانب أولوية السعودية بإنهاء حربها في اليمن، حيث مكّن التقارب السعودي - الإيراني السعودية من تسريع وتيرة مباحثاتها مع الجماعة، وتجاوز القنوات الخلفية للتفاوض من بغداد إلى مسقط إلى مباحثاتٍ مباشرةٍ بين الجانبين في العاصمة صنعاء، وبعيدا عن مسوّدة اتفاق تجديد الهدنة التي شملت وقف إطلاق النار على امتداد الجبهات، بما في ذلك جبهة الحدود ستة أشهر، إلى جانب ترتيباتٍ اقتصاديةٍ وإنسانيةٍ وكيفية تجاوز نقاط الخلاف في مسوّدة الاتفاق، والآلية المنظّمة لها، بما في ذلك نتائجها في المستقبل.
حدّدت جولة المباحثات الأولى بين السعودية وجماعة الحوثي الطرفين، بوصفهما لاعبين رئيسَين في الحرب اليمنية، مقابل مصادرة قرار القوى الأخرى، ثم أنتجت وضعا سياسيا جديدا، فضلا عن مضامين تطبيع العلاقة البينية، وكيفية استثمارها من الطرفين، إلى جانب تأثير ذلك على حلفائهما؛ فمن جهةٍ، حرصت السعودية، على مدى الأشهر السابقة، وفي سياق إنهاء حربها في اليمن على تطبيع علاقتها، وإنْ بشكلٍ غير مباشر مع جماعة الحوثي، وذلك بمنحها امتيازات الحفاظ على خفض التصعيد العسكري في حدودها، من استمرار الرحلات التجارية في مطار صنعاء إلى رفع حظرها، أخيرا، عن بضائع ظلّت ممنوعة من دخول اليمن، وتوسيع حركة البضائع في موانئ الحديدة، رافقتها إجراءات تخفيف القيود على الموانئ الخاضعة لحلفائها، حيث سمحت بدخول أول سفينة حاويات إلى ميناء عدن من دون تفتيشها في ميناء جدّة، كما جرت العادة منذ تدخلها العسكري في اليمن في عام 2015، بيد أن المباحثات مع الجماعة ظلّ الهدف الرئيس بالنسبة للسعودية، كونها عائقا في فرض تسويةٍ تنهي حربها في اليمن.
لذلك بدا للسعودية أن مباحثاتٍ رسمية مع الجماعة، وبشكل مباشر، قد تُفضي إلى إنجاز اتفاق سياسي لتجديد الهدنة، وإنْ بمواصفات سلام بالنسبة للسعودية، ينهي تدخّلها العسكري في اليمن، ويضمن أمن حدودها، ومن ثم يقطع الطريق على الأمم المتحدة لفرض اتفاق سلامٍ رسميٍّ في المستقبل ينهي الحرب، قد تكون له تبعات عليها. ثم حقّقت السعودية في الجولة الأولى من المباحثات الرسمية مع الجماعة في صنعاء، والتي وصفتها بالناجحة، مكسبا سياسيا، وذلك بتطبيع علاقتها مع الجماعة لأول مرة منذ بدء الحرب، ما يعني تطبيعا عسكريا أيضا يمنحها غطاء سياسيا للتحرّك، ودفعها نحو إنهاء الحرب. كما أن ذهابها إلى صنعاء، وإن بدا تنازلا سياسيا بخوض مباحثاتٍ معلنةٍ ورسميةٍ مع الجماعة فإنه يقدّمها طرفا يسعى إلى تحقيق السلام وإنهاء الحرب.
إلا أن الأهم بالنسبة للسعودية فرض نفسها راعيا للعملية السياسية في اليمن مستقبلاً، وذلك بانتزاع موافقة الجماعة على أن تكون الرياض الراعي للمفاوضات بين الفرقاء اليمنيين، وهو ما تكشّف بتصريحات السفير السعودي في أثناء زيارته صنعاء، وأيضا تغطية الصحف السعودية زيارة الوفد السعودي، وهو ما يعني تحوّلها من طرف في الحرب وحليف لقوى محلية إلى راعٍ للسلام، ومن ثم يعفيها من أي التزامات إنسانية وأخلاقية تجاه المدنيين اليمنيين، على أن السعودية، وإن أدركت، بعد أكثر من تسع سنوات من حربها في اليمن، أنها خطأ سياسي لا بد من تجاوزه، فإن هذا الإدراك المتأخّر لا يؤهلها لأن تكون راعيا للسلام، إلى جانب أن ذلك لا يغيّر دورها طرفا في الحرب ونتائج تدخّلها العسكري على مختلف الأصعدة على اليمنيين، كما أن أي تفاهماتٍ مع قوى الحرب التي هي ضليعة بجرائم بحقّ اليمنيين لا تسقط مسؤوليتها ولا حق الضحايا في الحصول على العدالة، إلى جانب أن السعودية، وإن حاولت إيجاد بدائل مريحة بالنسبة لها لطيّ الملف اليمني، إلا أنها لم تغادر عقليتها السياسية التقليدية دولة راعية للمبادرة الخليجية قبل عشر سنوات، إذ ما زالت تحاول ممارسة الدور نفسه، وبالأدوات نفسها، متجاهلة أن هذه المرحلة أيضا تم طيها، وأنها كانت جزءا من منظومة الفشل التي أنتجت الحرب التي كانت هي طرفا رئيسا فيها.
في المقابل، شكّلت المباحثات الرسمية بين السعودية وجماعة الحوثي إرباكا سياسيا لحلفائها، حيث تباينت مواقف القوى المنضوية في سلطة المجلس الرئاسي، ففي حين بات المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال أكثر القوى تقييداً في سياسته، وعجزا في تكييف أدواته مع هذه المرحلة، إذ أعلن رئيس المجلس الانتقالي، عيدروس الزبيدي، من الرياض، أن خريطة الطريق المضمّنة في الاتفاق السعودي مع الجماعة تضمّنت حلا تفاوضيا للقضية الجنوبية، وهو ما بدا خفضا لسقفه السياسي، فإن خيارات القوى المحلية الأخرى محكومةٌ، إلى حدٍّ كبير، بالسياسة السعودية في اليمن في المرحلة المقبلة.
يستطيع الطرف الذي يسيطر على العاصمة، في النهاية، فرض شروطه على خصومه. هذا ما تثبته تجارب الحروب الأهلية، وإذا كانت تحوّلات الحرب في اليمن قد مكّنت جماعة الحوثي من تثبيت سيطرتها على صنعاء، فإن ذلك منحها موقع قوّة في إدارة مباحثاتها مع خصومها، إلى جانب أن علاقتها بوصفها وكيلا محليا بحليفها الإيراني حققت لها مكاسب عديدة على المدى البعيد، فخلافاً لإدارة السعودية لعلاقتها بوكلائها في اليمن والمنطقة، فقد نجحت إيران بتمكينهم عسكريا، على عكس السعودية التي أدارت حربها في اليمن لإضعاف وكلائها عسكريا، مقابل إنشاء قوات مشتتة تابعة لها.
إضافة، وهو الأهم، إلى أن إيران ضمنت مصالح وكلائها في ظل أي تحولات سياسية تشهدها المنطقة، مقابل تضحية السعودية بوكلائها، فعلى الرغم من أن التقارب السعودي - الإيراني أسفر عن إجراءات ثقة متبادلة أسهمت في تقييد الوكلاء، اتّضح في الشأن اليمني إعلان السلطات اللبنانية، أخيرا، الموافقة على إغلاق قناة المسيرة التابعة لجماعة الحوثي وقناة الساحات اللتين كانتا تستهدفان السعودية وحلفاءها في اليمن، إلى جانب ترضية بعض الوكلاء، على حساب وكلاء آخرين، كتطبيع السعودية علاقتها مع النظام السوري، وذلك باستقبالها وزير الخارجية السوري أخيرا، وزيارة نظيره السعودي دمشق، النظام الحليف لإيران.
ثم أسهم التقارب السعودي – الإيراني، إلى حد كبير، في اختلال موازين القوى بين الوكلاء تبعاً لسياسة حلفائهم. وإذا كانت إيران قد دفعت جماعة الحوثي إلى الانخراط في مباحثات رسمية مع السعوديين، بحيث قوّض ذلك ادّعاءاتها أنها طرف محلي لا يخضع لإيران، وإن كانت هناك مساحة من حرية القرار مكّنت الجماعة من المناورة السياسية في ظروفٍ سابقة، فإن الخضوع للسياسة الإيرانية الإقليمية ولتقاربها مع السعودية، وتحديدا في الملفّ اليمني، أدّى إلى تعميق الانقسام بين أجنحة الجماعة، وأيضا القوى المتحالفة معها، فعلى الرغم من أنها خفّضت عداءها للسعودية توازيا مع التقارب السعودي – الإيراني، بدءا بوقف الحملات المناهضة السعودية في قنواتها إلى جانب منابر مساجدها، فإن تطبيع علاقتها مع السعودية أدّى إلى تصاعد الانقسامات بين أجنحتها والقوى المتحالفة معها، حيث برزت تبايناتٌ في المواقف المعلنة من المباحثات الرسمية مع السعودية ونتائجها.
ففي حين يتبنّى الجناح السياسي الذي تمثله بعض قيادات الجماعة سياسة التفاوض مع السعودية، باعتبارها أفضل الوسائل الممكنة لفرض شروطها على خصومها في اتفاق تجديد الهدنة، فإن الجناح العسكري، الذي يرى في أي حل سياسي مستقبلي تحييدا له وأيضا خصما من مكاسبه المترتبة من استمرار الحرب، خصوصا في جبهات الحدود مع السعودية، يعارض أي تقارب مع السعودية، فضلا عن الجناح المناوئ لإيران داخل الجماعة، والذي يرى في تدخّلها في سياسة الجماعة ضررا بمصالحها على المدى البعيد. ومن ثم، يعتبر هذان الجناحان أن تطبيع العلاقة مع السعودية خيانة لدماء القتلى من أنصار الجماعة وعصبتها، ويقتضي قبل إجراء أي تفاهمات إعلان السعودية خسارتها في الحرب، إلى جانب رفض رعايتها أي عملية سلام مقبلة بين اليمنيين.
وبالتالي، رأت الجماعة في زيارة السعودي صنعاء انتصارا سياسيا لها، واعترافا بها سلطة أمر واقع، بحيث استثمرته شعبيا، بما في ذلك محاولة فرض شرط مغادرة القوات الأجنبية من اليمن في اتفاق تجديد الهدنة، فإن تطبيع علاقتها مع السعوية يجعل من الجماعة التي برّرت بطشها بخصومها ومعارضيها بتهمة التخابر مع "العدوان السعودي"، في حالة انكشاف سياسي.
اقراء أيضاً
هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
صنعاء... صفقة السموم الإسرائيلية