قبل أيام صدر التقرير الدوري لفريق الخبراء المشكَّل من قبل مجلس الأمن الدولي والخاص برصد تطورات الأوضاع في اليمن، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والحقوقية والإنسانية المختلفة. ومع ورود فقرات عن انتهاكات منسوبة للحكومة اليمنية والتحالف الداعم لها إلا أن معظم التقرير كان عن انتهاكات نسبها التقرير للحوثيين الذين يسيطرون على العاصمة اليمنية صنعاء ومعظم شمال البلاد.
وقد كشف التقرير الأممي عن أرقام مهولة تظهر حجم الفساد الاقتصادي الذي تمارسه سلطة ميليشيات الحوثي على مستويات مختلفة، كما كشف عن حجم الانتهاكات التي تمارسها تلك السلطة ضد المواطنين في مناطق سيطرتها، ناهيك من استهداف المدنيين والأعيان المدنية بالطائرات المسيّرة والصواريخ البالستية والألغام، وتفاصيل كثيرة حول الطرق التي تسلكها شبكات تهريب السلاح بين الموانئ الإيرانية والسواحل اليمنية، وصولاً إلى سلطة الحوثيين، مع رصد تقارير عن تورطهم في تهريب المخدرات، حسب التقرير الأممي.
يُعد التقرير بحق وثيقة إدانة واضحة لممارسات جماعة الحوثي التي جاء التقرير في معظمه راصداً حجم فسادها الاقتصادي وانتهاكاتها الإنسانية والحقوقية، ناهيك من سلوكها السياسي الذي أشار التقرير إلى ارتباطه بالقناعات الدينية للجماعة.
والتقرير طويل نسبياً، ويشمل الكثير من التفاصيل والأرقام والإحالات والصور والخرائط والملاحق التي رصدت بشكل مفصل بعضاً مما يعرفه اليمنيون ـ أو بعضهم ـ عن سلوك تلك الجماعة التي تظهر التدين من جهة، وتمارس كل أنواع الفساد، بما فيها الأخلاقي الذي أشار إليه التقرير من جهة أخرى، حيث أشار التقرير إلى عدم وجود أدلة على موت القيادي الحوثي سلطان زابن الذي وجهت له اتهامات دولية بانتهاكات جنسية خطيرة، رغم كونه يمثل «حارس الفضيلة» لدى سلطة الحوثي التي أعلنت وفاته فيما بعد بكورونا، وهو ما شكك فيه تقرير الخبراء، في إلماحة إلى إخفاء الميليشيات لهذا القيادي المتهم بتلك الجرائم الجسيمة.
أما على المستوى الاقتصادي فيرصد التقرير حصول الحوثيين على أكثر من 271 مليار ريال يمني أو ما يعادل 540 مليون دولار من ضرائب الوقود عبر موانئ الحديدة خلال ثمانية أشهر فقط من الهدنة بين نيسان/أبريل وتشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهذه الأموال يفترض أنها مخصصة لصرف مرتبات الموظفين، لكن الحوثيين سيطروا عليها دون صرف المرتبات، في مخالفة واضحة لاتفاق ستوكهولم المبرم بين الحكومة والحوثيين عام 2018 لإنهاء الصراع حول مدينة الحديدة التي بلغ حجم مبيعات الوقود عبر مينائها خلال الفترة المذكورة ما لا يقل عن 2.1 مليار دولار.
يشير التقرير إلى «الاقتصاد الموازي» الذي أنشأه الحوثيون بتدمير القطاع المصرفي في اليمن بنسبة 90٪، وإحلال شركات تحويل الأموال الخاصة بهم محل هذا القطاع، وكذا تأسيس شركات جديدة لهم على حساب رأس المال الوطني والبيوت التجارية والصناعية المعروفة في اليمن، وذلك بفرض ضرائب وإتاوات باهظة على شركات القطاع الخاص، مع إعفاء شركات تتبع قياداتهم ومقربيهم من تلك الالتزامات، وهو ما مهد الطريق لإضعاف القطاعات الاقتصادية المختلفة لصالح اقتصاد الجماعة التي تحصل 70٪ من عائدات الضرائب في البلاد، فيما لا تحصل الحكومة اليمنية إلا ما نسبته 30٪ من تلك العائدات، كما أن الحوثيين يفرضون كذلك ضرائب على البضائع المستوردة التي تتم جمركتها في الموانئ التي تسيطر عليها الحكومة جنوب البلاد، وهو ما تسبب في غلاء السلع في مناطق سيطرتهم، بالإضافة إلى رصد التقرير مئات المليارات من الريالات اليمنية التي يحصلها الحوثيون كضرائب على قطاع الاتصالات، ولكي لا يفقدوا هذه الأموال عمدوا إلى تخريب عمل شركات الاتصالات التي حاولت الهروب من مناطق سيطرتهم إلى مناطق سيطرة الحكومة اليمنية.
أما عن مصادرة الحوثيين لأراضي المواطنين، فقد تحدث التقرير عن مصادرتهم لمساحة تقدر بقرابة 13 مليون متر مربع من أراضي السكان في مديرية بيت الفقيه في محافظة الحديدة، ناهيك من أراض أخرى في المحافظة قدرت قيمتها بـ190 مليون دولار. وتفسر تلك المداخيل تمسك الحوثيين بالسيطرة على الحديدة، بالإضافة إلى السبب الرئيس المتمثل في ضمان استمرار تهريب السلاح.
وذكر التقرير أن 90 مليون دولار تحصل عليها الحوثي كعائدات زكاة، وأن أموال «الخمس» تفرض على قطاعات إنتاجية، وتذهب مباشرة لعائلة عبدالملك الحوثي، (على اعتبار أن الخمس حق ديني له ولأسرته) وهي الفكرة التي جير لها الحوثي نصوصاً دينية ليسقطها عليه وعلى أسرته وأقاربه.
وهناك تفاصيل مهمة لا يتسع المقام هنا لسردها يمكن الرجوع إليها في التقرير الذي نشره موقع الأمم المتحدة، غير أنه يمكن الإشارة إلى أن الحوثيين لا يقدمون أيا من الخدمات الواجبة عليهم إزاء السكان في مناطق سيطرتهم مقابل هذه المبالغ الهائلة التي يتحصلون عليها، وعلى العكس من ذلك يرفضون تجديد الهدنة ما لم تصرف الحكومة اليمنية مرتبات مقاتليهم الذين يقاتلونها، وهي المطالب التي ذكر تقرير الخبراء أنها «غير معقولة».
وهناك نقطة أخرى مهمة، وهي أن تلك المداخيل الاقتصادية الهائلة هي التي تدفع الحوثيين إلى رفض كل دعوات السلام الموجهة، حيث يصعب على من يجني تلك الأموال أن يتخلى عنها بسهولة، ناهيك من المزايا السياسية والسلطوية الأخرى التي تحصلوا عليها باستمرار الأوضاع على ما هي عليه. وفوق ذلك أشار التقرير إلى حقيقة يعرفها المتابع للأوضاع، وإن كانت ـ ربما ـ ترد لأول مرة في تقارير الخبراء الدورية الخاصة باليمن، وهذه الحقيقة هي أن «استعداد المجتمع الدولي للنزول على مطالب الحوثيين» هو الذي زاد من جرأتهم، كما ارجع التقرير أسباب عدم تجديد الهدنة التي انتهت في 2 تشرين الأول/أكتوبر الماضي – مع استمرارها بشكل غير معلن ـ إلى «مطالبات الحوثيين غير المعقولة بدفع رواتب أفرادهم العسكريين إلى جانب رفضهم رفع الحصار عن تعز» وهي المطالب التي وصفها التقرير بأنها غير «معقولة» كما تمت الإشارة إليه.
وهنا يتضح أن الأمر لم يعد مجرد خلاف سياسي بين فريقين يمنيين متصارعين، ولكن القضية أعمق من ذلك بكثير إذ أن الصراع تؤججه رغبة باستمرار الأوضاع على ما هي عليه، كي لا تتم خسارة المزايا المذكورة سابقاً والتي يتم تحصيلها على حساب أقوات ودماء اليمنيين الذين تسيل دماؤهم وتنهب مقدرات بلادهم بهذا الشكل الذي لم يسبق له مثيل من قبل، حسب ما أورد تقرير الخبراء الأمميين الأخير الذي يرقى إلى مستوى «وثيقة إدانة جنائية» رصدت حجم الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق اليمنيين في الداخل، والتي نجحت ميليشيات الحوثي في التستر عليها لسنوات طويلة، مستعملة أساليب الدعاية الإعلامية، وخطاب المظلومية الذي خدعت به الكثيرين داخل اليمن وخارجها، قبل أن يتضح للجميع حجم الجريمة التي ارتكبوها بحق اليمن واليمنيين.
*نقلاً عن "القدس العربي"
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم