الحديث عن أهمية التراث في تشكيل هوية الإنسان لا يعني العيش في الماضي، بمعنى جلبه و محاولة تطبيقه في الحاضر، فهذا يخالف طبيعة التطور الإنساني. و في المقابل، القول بالقطيعة مع التراث في سبيل التطور يخالف فكرة التطور نفسها، فذكر التطور يستدعي استحضار الماضي و الحاضر و المستقبل. حيث كيف يمكن أن تتحدث عن تطور دون استجلاب نموذج بدائي له؟
استحضار التراث ينبغي أن يكون بإدراك البعد الزمني. فالإنسان و المجتمع قبل قرن ليس كقبل خمسة قرون و ما قبل خمسة قرون ليس كما قبل ألفية و هكذا.
في التراث المادي مثلاً، عرض تماثيل يمنية وثنية قديمة أو منحوتات، تعود إلى ما قبل الديانات السماوية لا تعني الدعوة إلى الوثنية، كما تصور الجماعات المتطرفة المعادية للتراث المادي، رغم أنها غارقة في التراث لكن بشكل آخر الناس، حاضراً، و كنتيجة لقرون طويلة من التطور الفكري و الثقافي يعتنقون عقيدة دينية مختلفة عن تلك التي كان الأجداد يعتنقونها. و لا يمكن لشيء كتمثال أن يغير عقيدتهم هذه، و تصوير الأمر كخطر على العقيدة، إهانة للعقيدة بأنها ركيكة إلى درجة أن تمثالاً يمكن أن يهزها، و أيضاً استخفاف بمدى تجذر الإيمان في نفوس الأفراد.
غير أن الهدف من هذا الاستحضار يهدف لتكوين صورة عن الذات الحضارية و الثقافية اليمنية منذ بداياتها بما يحمله ذلك من قيمة و تعزيز للهوية، و أيضاً الانتماء للأمة اليمنية، حسب التعريف المبسط للأمة، بأنها جماعة أو جماعات من البشر تعيش في جغرافيا معينة و لها ثقافة تراكمية و تاريخ مشترك، جميعها تولد شعورا بالانتماء.
إذا اعتبرنا أن أي أمة تمر بمراحل تطور كما يمر بها الإنسان في حياته. فالإنسان طالما يظل يستدعي ذكرياته كتشديد على خبراته لبناء ذاته. و حيث أن الحنين للطفولة، مثلاً، حنين لتجارب و لحظات معينة و ليس رغبة من الإنسان بأن يعود طفلاً أو يمارس الصبيانية.
مسألة التراث الديني الإسلامي ربما هي الأكثر تعقيداً و تجلياً في الصراع بين دعاة استعادة الماضي كما هو، و بين دعاة القطيعة معه، لنأخذ مثلاً و دون تفصيل، مسألة الموروث الفقهي لابن تيمية.
ستجد أن هناك فريق يدعو لاستحضاره وتطبيقه كما هو في الحاضر. في تجاهل تام بأن هذا الإنتاج الفقهي كان خاضعاً لاجتهاد شخصي في ظروف زمنية و مكانية و بيئية خاصة.
و ستجد الفريق الثاني، يدعو للقطيعة معه كتراث، و محاكمة صاحبه بمعايير اليوم، و من ثم إصدار أحكام تعسفية على اجتهادات شخص عاش قبل قرون في ظروف تختلف تماما عن ظروف اليوم.
و الحل ربما في التعامل مع هذا الإنتاج كموروث فقهي يتم دراسته في سياقه التاريخي، و لا يتم الجمود عنده أو القطيعة معه.
و مثلما كان لصاحبه، أن يجتهد في زمانه كانعكاس لما رآه حاجة لمجتمعه، و تجديد لما سبقه من اجتهادات فقهية لم يتوقف عندها -فقط-، بسبب دخول أشياء و أفكار جديدة في حياة المجتمع وقتئذ، هناك حاجة للاجتهاد اليوم بما يراعي التغييرات و التطورات التي طرأت على الإنسانية بشكل عام، و المجتمعات المسلمة بشكل خاص.
و إذا أخذنا التراث الفلسفي كمثال مقابل، يتم استحضار أعمال أفلاطون و أرسطو وكونفوشيوس و ديكرت و غيرهم، رغم وجود مئات النظريات اللاحقة. كل مفهوم جديد لا يمكن استيعابه استيعاب خالص دون مقاربته أو البناء على مفهوم أقدم.
الخلاصة، لكل حضارة خصوصيتها و تفكيرها الخاص نتيجة الظروف الزمنية و البيئة و الطبيعية المتباينة، فما هو غير منطقي هنا يكون منطقي جداً، هناك، و ما هو غير عقلاني لنا اليوم، كان عقلانيا لغيرنا في الأمس.
و الإشكالية في طريقة نظرتنا و تعاملنا مع التراث و ليس في التراث. بين من يريدون القفز على الزمن و من يريدون القطيعة مع الزمن. و الحل ربما في رؤية التراث كعامل للهوية، لا أكثر و لا أقل، أي كرابط للزمن.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
قومية أم وطنية
عن الزعامة
في الهوية الوطنية والانتماءات الخاصة