ليس هناك ما هو أسوأ من صداقة أمريكا إلا عداوة روسيا، صداقة أمريكا مميتة وعداوة روسيا قاتلة، ولكن الأمر ليس مطرداً بطبيعة الحال، فلكل قاعدة استثناء، بما أن المصالح هي التي تحدد قواعد الصداقة والعداوة، حيث «لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، ولكن مصالح دائمة».
في العالم العربي يسود انطباع أن أمريكا تعلن التزامها بأمن دول المنطقة من ناحية، ثم تعمل بشكل غير مباشر على تقويض هذا الأمن لغرض في نفس يعقوب. واشنطن ـ على سبيل المثال ـ حليفة الرياض على مستوى الخطاب الرسمي، لكنها مستفيدة من وجود الحوثيين في اليمن خنجراً في الخاصرة الجنوبية للأمن القومي العربي بشكل عام والسعودي بشكل خاص، في معادلة يريد بموجبها الحليف لحليفه أن يدخل في تحالف إجباري، تحالف يضطر بموجبه الحليف العربي لشراء أسلحة بمليارات الدولارات من نظيره الأمريكي الذي يعلن التزامه بأمن المملكة، ولكنه ضغط بقوة لوقف معركة الحديدة، الأمر الذي شكل طوق نجاة الحوثيين مع نهاية 2018، ما مكنهم فيما بعد من التزود بالصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة الإيرانية التي استهدفت منشآت حيوية سعودية، ناهيك من رفع واشنطن الحوثيين من قوائم الإرهاب، رغم استهدافهم الأعيان والمنشآت المدنية في اليمن والسعودية والإمارات.
كل تلك التصرفات من طرف «الحليف الأمريكي» كانت ـ من وجهة نظره ـ لأسباب «إنسانية»، تتمثل في أن اليمنيين سيتضررون من استمرار معركة الحديدة التي تعد الرئة التي يتنفس منها الحوثيون أسلحة ومهربات ومحروقات، كما أن رفع الحوثيين من القوائم الأمريكية للإرهاب جاء للدواعي «الإنسانية» نفسها، وهي الدواعي ذاتها التي لم تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الإنسانية لأهالي غزة عند التصنيف الأمريكي لحماس منظمة إرهابية.
نحن هنا إزاء نوعين من التحالف لدى الأمريكيين: «تحالف استراتيجي»، و«تحالف تكتيكي»، حيث تبدو إسرائيل حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، كما برزت أوكرانيا مؤخراً كذلك، على الرغم من أن واشنطن لا تربطها بأوكرانيا تحالفات عسكرية رسمية، الأمر الذي لم يمنع دعم واشنطن للحليف الأوكراني، وهو الدعم الذي كان له دور بارز في تغيير المعادلات العسكرية على الأرض، دون أن يرقى تحالف واشنطن مع الحليف «التكتيكي» العربي إلى هذا المستوى من الدعم والتنسيق، وهي السياسة التي تجعل «الحليف التكتيكي» يدفع أثماناً باهظة لتحالفه، فيما يجني «الحليف الاستراتيجي» أرباحاً وفوائد لا حصر لها.
هذه النظرة للتحالفات من طرف واشنطن تكشف عن رؤية أمريكية لمفهوم التحالف الذي يعني ضمان مصالح أمريكا وعدم مراعاة مصالح «الحليف التكتيكي»، وبهذا الفهم للتحالف تعمل واشنطن على تفريغ المصطلح من مفهومه، ليتحول التحالف ـ حسب الفهم الأمريكي ـ إلى نوع من التبعية التي تصب في مصلحة طرف واحد لا غير، الأمر الذي تُعزى إليه التحولات الملحوظة في رؤية بعض دول المنطقة لجدوى التحالف مع الولايات المتحدة.
وفي السنوات الأخيرة سئم «حلفاء واشنطن العرب» فيما يبدو من التصريحات الأمريكية الجوفاء عن الالتزام بأمن دول المنطقة وغيرها من تصريحات الاستهلاك السياسي، حيث يتضح مع مرور الزمن أن حليف واشنطن الحقيقي في المنطقة من وجهة النظر الأمريكية هو إسرائيل، وأما التحالفات العربية الأمريكية فهي تحالفات من طرف واحد بدأ مؤخراً يدرك أنه ينبغي أن يبحث عن مصالحه كما تبحث واشنطن عن مصالحها.
وقد طرأت تلك التحولات من خلال توجه عربي نحو الشرق ممثلاً في روسيا والصين، مع الانفتاح على دول آسيوية أخرى، كما هو ملحوظ في سياسات دول الخليج ومصر تحديداً، ناهيك من دول عربية حضرت القمة العربية الصينية الأخيرة في الرياض، وهي القمة التي جاءت عقب فشل مسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن لإقناع دول الخليج برفع مستويات إنتاج النفط والغاز لتعويض النقص الناتج عن العقوبات الغربية على روسيا، حيث أقدمت «أوبك +» على تخفيض الإنتاج النفطي بمعدل مليوني برميل يومياً، بدلاً من رفع الإنتاج الذي كان مطلباً أمريكياً، الأمر الذي فهم في واشنطن على أنه اصطفاف إلى جانب روسيا في الصراع مع أوكرانيا، وسط دعوات أمريكية لمحاسبة السعودية لـ«مؤامرتها» مع روسيا ضد المصالح الأمريكية.
ومع ذلك تجدر ـ هنا ـ الإشارة إلى أن هذا التوجه العربي والخليجي تحديداً يظل حذراً، وأنه يدرك صعوبة مراجعة العلاقات الطويلة مع واشنطن والكتلة الغربية، ولذا رشحت تصريحات عربية عديدة تؤكد أن دخول الصين بقوة إلى الشرق الأوسط لن يكون على حساب العلاقات الأمريكية العربية، وهي تصريحات تتضمن تطميناً لقلق أمريكي واضح إزاء طبيعة التحولات في منطقة مضطربة، كما تتضمن رداً على تصريحات أمريكية تتهم الخليج والرياض تحديداً بإدارة الظهر لواشنطن.
الواقع أن القلق إزاء طبيعة التحالف مع واشنطن ليس خاصاً بالعرب وحدهم، بل إن لدى الأتراك قلقاً وتوجساً أعمق إزاء التحالف مع الولايات المتحدة والكتلة الغربية التي يجمعها وتركيا حلف الناتو، حيث تسرد الرواية التركية عدداً متزايداً من المواقف التي تشير إلى خلل في معادلات التحالف بين تركيا والغرب، تلك المواقف التي لم تبدأ بمماطلة أوروبا في منح تركيا عضوية الاتحاد، ولا بما تراه أنقرة مواقف غربية منحازة ضدها في ملفات تخص تنافس القوى شرق المتوسط أو التعامل مع حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا والدول الغربية منظمة إرهابية، إضافة إلى شكاوى تركية من عرقلة واشنطن لعملية عسكرية تركية في سوريا تراها أنقرة ضرورية لمحاربة «الإرهاب»، وقبل ذلك سحب بطاريات «باتريوت» من تركيا بعد إسقاط الأتراك طائرة روسية اتهموها باختراق المجال الجوي التركي عبر الأجواء السورية، الأمر الذي كاد يشعل صراعاً مع الروس، حيث لم تشفع لتركيا عضويتها في «الناتو» الملتزم بالدفاع عن الدول الأعضاء فيه.
وبغض النظر عن أحقية المطالب التركية من واشنطن تحديداً فإن الأتراك ـ كما العرب ـ باتوا ينظرون إلى أن التحالف مع الأمريكيين لم يعد خيارهم الوحيد، الأمر الذي دفع تركيا مؤخراً نحو الشرق ممثلاً بكتلته الروسية الصينية، وهو ما تجلى في عدم اتخاذ أنقرة المواقف ذاتها لحلفائها في «الناتو» إزاء الصراع في أوكرانيا، كما تجلى ـ قبل ذلك ـ في العمل على تطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين ومحاولات تركيا لكي تكون مركزاً عالمياً للطاقة الروسية، ومحطة مهمة على طريق الحرير الصيني الجديد.
ومهما يكن من أمر، يبدو أن تركيز الأمريكيين على مصالحهم بغض النظر عن مصالح «حلفائهم التكتيكيين» جعل هؤلاء الحلفاء ينظرون بتوجس لطبيعة تحالفات واشنطن، ما دفعهم للبحث عن تحالفات جديدة، إذا لم تكن استراتيجية، فلا أقل من أن تضمن لهم تنويع الخيارات المتاحة.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم