هل ـ حقاً – تؤمن الديمقراطيات المعاصرة بالتعددية خارج إطارها الجيوسياسي والثقافي؟
وكيف يمكن التوفيق بين فكرة التعددية، ومحاولات فرض كثير من القيم والأفكار والتوجهات، مع الترويج لأحادية المركزية الثقافية والحضارية المهيمنة التي يُستشف منها التعارض مع تعدد النماذج والثقافات؟
هل يعقل أن تؤمن دولة أو منظومة حضارية بالتعددية العرقية والثقافية والدينية ثم تسعى لفرض نموذجها على الآخرين؟
ألا تقوم الفكرة الاستشراقية ـ في مجملها ولدى كثير من المستشرقين ـ على أساس من مركزية النموذج الغربي، وهي المركزية التي سوغت لفكرة الاستعمار وما تلاه من كوارث على شعوب وبلدان الشرق؟
ما معنى أن تقدم ثقافة نفسها على أساس أنها ثقافة تعددية في حين يروج المنتمون إليها أنها تشكل النموذج الأرقى الذي يجسد نهاية التاريخ، حسب فرانسيس فوكوياما؟
ثم لماذا يفترض أن الغرب هو محور الكون الثقافي والحضاري، وهل تُعد المحورية التكنولوجية والعسكرية أساساً للمحورية الأخلاقية والقيمية، وهل يفترض أن تنتج مصانع الأسلحة وشركات التكنولوجيا قيماً صالحة لكل الثقافات؟
هل إذا قالت تلك المحورية ـ مثلاً ـ إن «المثلية» حق من حقوق الإنسان فعلى العالم أن يعتبرها كذلك؟ وإذا رأت أن الميول المثلية تولد مع المثلي في تركيبته الجينية، لأن مرد الأمر لـ«لحتمية البيولوجية»، هل إذا قالت ذلك فالمطلوب من بقية الثقافات أن تسلم بالأمر؟
ما هذا «التألُّه الحضاري» الذي يظهر به أن الغرب يريد أن يحل محل الله الذي زعم فريدريك نيتشه موته، وهي الدعوى التي أريد بها أن تحل منظومة قيمية وثقافية مستحدثة وغير عالمية محل منظومة تقليدية، كان يمكن أن تكون فيها قيم مشتركة مع ثقافات وأعراق وجغرافيا مغايرة؟
ثم هل بالفعل تمثل تلك السياسات المتبعة حقيقة التوجهات الشعبية في الدول التي تريد فرض نموذجها بكل وسائل القوة الخشنة والناعمة؟
وهل جرى استفتاء يوضح أن غالبية الانكليز أو الفرنسيين أو الأمريكيين والألمان مع ما تحاول السياسات الاستعلائية طرحه من رؤى وأفكار حول الأقليات المثلية على سبيل المثال؟
ألم تتحول «المثلية» التي يراد فرضها اليوم إلى «أيديولوجيا أحادية»، ترفض «التعددية الثقافية» التي تحاول أن تتمظهر بها الدوائر التي تسعى إلى تكريس فكرة أن «المثلية حتمية بيولوجية»، وما معنى أن تستغل «الأيديولوجيا المثلية» فكرة التعددية لتتوسع من خلالها، مع أن تلك الأيديولوجيا تمارس أنواعاً من الإرهاب النفسي على المعارضين؟
ألا تعني الهجمة الشرسة التي قادتها شخصيات سياسية ومنظمات وأحزاب أوروبية وأمريكية ووسائل إعلام غربية ضد تنظيم ألعاب كأس العالم في قطر أن هناك رفضاً مطلقاً لخروج عملية صناعة الحدث عن «المركز الحضاري»، حتى ولو كان ذلك الحدث لا علاقة له بموازين القوى السياسية والعسكرية؟
إن إصرار المنظومات الثقافية والسياسية الغربية على فرض نموذجها ونظرتها وأسلوب حياتها على الآخرين يرجع في الأساس إلى كون تلك المنظومات مازالت محكومة بالرؤية الاستشراقية التي لا تزال بالفعل تمثل رافعة السلوك والتصورات والصور النمطية الأورو ـ أمريكية حول الشرق الذي لا يزال ـ إلى حد كبير ـ يحتفظ بصورته النمطية لدى التيار الأغلب من الكتاب والمستشرقين والإعلاميين والمشتغلين بصناعة السينما وبرامج الإنتاج التلفزيوني على شاطئي الأطلسي، في انعكاس لتيار غالب في الاستشراق عبر عنه المفكر الفرنسي أرنست رينان بقوله إن «العقل العربي عاجز عن ممارسة الفكر المركب والتفلسف»، وفي تجسيد لأقوال الكثير من المستشرقين الذين رأوا الشخصية العربية خالية من الخيال والإبداع.
وبطبيعة الحال، لا أحد ينكر مركزية الغرب اليوم سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، وهي مركزية عالمية بالفعل، لكن هل تعطي هذه المركزية للمؤمنين بها حق فرض نموذجها في السياسة والاقتصاد والقيم والثقافة على الآخرين الذي يرفضون كلياً أو جزئياً ما تقدمه من منتجات ثقافية بشكل خاص؟
وبعيداً عن أسئلة الجدل الثقافي بين ضفتي الأبيض المتوسط، تبرز أسئلة كثيرة حول «تسييس وتسليع القيم» الذي تمارسه «الكولونيالية الجديدة»، لتحقيق أهداف تناقض تلك القيم وشعاراتها المرفوعة.
ألم يدمر الغزو الأمريكي العراق للسيطرة على موارد الطاقة فيه، تحت راية «نشر الديمقراطية»، وهي المبرر الأخير الذي ركز عليه الأمريكيون، بعد فشل مبررات «البحث عن أسلحة الدمار الشامل»، و«علاقة نظام صدام حسين بالقاعدة»؟
أليست الهجمة على مونديال قطر ناتجة عن تقسيم العالم إلى «فسطاطين»، هما «فسطاط العالم الحر المتقدم، وفسطاط العالم المستعبد المتخلف»، مهما حاول دعاة الفسطاطين استغلال القضايا الحقوقية والثقافية الأخرى للتغطية على الأسباب الحقيقية لتلك الهجمة التي بدت عارية من كل شعاراتها حول التعددية والتنوع؟
إن استغلال «حقوق الإنسان» وفقاً للمعيار الغربي الذي يرى أصحابه أنه هو المعيار العالمي، هذا الاستغلال لهذا المفهوم وفقاً لأجندة سياسية وثقافية محددة يضع الكثير من علامات الاستفهام حول توظيف حقوق الإنسان بشكل يؤدي إلى استعباد شعوب كثيرة تقطن وراء الخط الوهمي الفاصل بين «العالم الحر» و«العالم المستعبد»، وفق رؤية الفسطاطين اللذين يمثلان «الفوقية الغربية» و«الدونية الشرقية»، حسب إدوارد سعيد.
وقد ألمح الفيلسوف النفعي جريمي بنتام لهذا المنحى لدرجة أنه أطلق على المفهوم الحقوقي تسمية «الهراء الذي يمشي على ساقين من خشب»، وذلك لما جرى باسمه من جرائم وحروب وتدخلات امبريالية في شؤون دول وشعوب عدة، ولعل هذا المفهوم ـ وغيره من المفاهيم ـ كان السبب وراء فكرة «الانتداب» التي أعطت لحكومات غربية الحق في الوصاية على «شعوب لم تبلغ سن الرشد»، بموجب مقررات «عصبة الأمم» التي تمخضت عنها منظمة الأمم المتحدة، وهي الوصاية التي يبدو أن صناعة القرار على جانبي الأطلسي لم تتخل عنها، وإن كانت قد لجأت لأساليب أكثر ذكاء لإخفائها.
الأمر الذي أدى إلى تشكل نظرة سلبية لدى قطاعات واسعة في الشرق إزاء المفاهيم الحقوقية، على اعتبار أنها وسيلة الغرب للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، من أجل التحكم بها، وعلى اعتبار أنها كذلك وسيلة لفرض رؤى أقلوية على الأغلبية الشعبية، باسم حماية حقوق الأقليات، وهي الأقليات التي تم توظيف «حقوقها» سياسياً، للتدخل في شؤون الآخرين، قديماً وحديثاً، في استمرار لسياسات لم تكن في يوم ما خافية على أحد.
ختاماً: إن «تسييس وتسليع» الغرب لمفاهيم الحقوق والحريات، للتدخل في شؤون الدول الأخرى، من أجل السيطرة على مواردها الاقتصادية يشبه تماماً ما يقوم به اللص الذي يقول: «بسم الله»، وهو يفتح الخزنة، وإن هذا التسييس لا يشير إلى إيمان بـ«التعددية العالمية» قدر ما يؤشر على «الأحادية الغربية» التي تريد فرض نماذجها الحضارية على الآخرين.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم