اختتمت يوم الأحد، 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، النسخة السابعة من معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي، في تظاهرة ثقافية كبيرة وحاشدة، تعكس حجم الوجود العربي في هذه المدينة وتركيا ككل، عدا عن حجم الإقبال التركي على الثقافة العربية، قراءةً وتعلماً، وهذا ما يلاحظه جيدا كل من يتردّد على هذه البلاد على مدى عقد على الأقل، وحجم التحوّلات المتسارعة والحاصلة في هذا الجانب.
أتذكرُ جيدا منذ قدومي إلى إسطنبول، بداية العام 2015، كيف كان أندر ما في هذه المدينة أن تجدَ مطعماً عربياً جيداً، أو حتى أن تجد تركياً يتحدث العربية، فضلاً عن أن تجد مكتبة عربية في هذه المدينة الكوزموبوليتانية. أما اليوم فلا أكون مبالغاً بالقول إنك لم تعد تشعر بغربتك في مدينة تعج بالعرب وفعالياتهم المتعدّدة عدا عن قنواتهم ومكتباتهم وأنشطتهم الثقافية والفكرية والتي يأتي معرض إسطنبول واحدةً من أهم هذه الفعاليات. وما زلت أتذكر جيداً، أول لقاء لي بالصديق نواف القديمي مدير الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الذي يعد بحق هو الأب المؤسس لفعاليات معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي، منذ لحظته الأولى، والتي دشّنها نواف بإقامة أول معرض عربي للكتاب في إسطنبول. وأتذكر جيدا حديثي معه بهذا الخصوص، وقال لي بالفعل إنه يسعى إلى ذلك، وهو ما تم بإقامة أول معرض للكتاب العربي في إسطنبول في السلطان أحمد في مقر اتحاد الأدباء والكتّاب الأتراك في عام 2015. أما اليوم فقد غدا للعرب الإسطنبوليين معرضاً دائماً وكبيراً، في هذه المدينة التي تضم واحدة من أهم (وأكبر) النخب العربية المهاجرة، بل المُهجرة من أوطانها قسراً، هذه النخبة والجالية الكبيرة التي دفعت ثمناً باهظاً لإجهاض ثورات الربيع العربي، وما آلت إليه الأوضاع في بلدانهم بفعل مآلات تلك الثورات.
إسطنبول العربية، التي تريد هذه المقالة الحديث عنها هنا هي الحضور العربي الكبير والنوعي في هذه المدينة التي احتضنت هذه الأعداد الكبيرة من العرب المهجّرين من أوطانهم، وكيف استطاع الوجود العربي أن يسجّل حضوره الكبير والسريع في مدينة واسعة وكبيرة وعظيمة ومترامية الأطراف، وقبل هذا كله مدينة عابقة بالتاريخ وروح الشرق وعراقته، وبهرجة الغرب وعقلانيته.
وجدير بالذكر أن الوجود العربي في إسطنبول ليس وليد هذه اللحظة العربية المرتبكة، وإنما قديم قدم هذه المدينة التي حاول العرب فتحها بقيادة القائد العربي، مسلمة بن عبد الملك (66 -212هـ) الذي لا يزال جامعه في جلطة شاهدا على تلك اللحظة، التي حاصر بها عاصمة الإمبراطورية الرومانية، عدا عن أهم معالم إسطنبول العربية، وهو جامع السلطان أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، الذي توفي سنة 52 هجرية وهو في طريقه إلى إسطنبول ضمن جيش يزيد بن عبد الملك، ويعدّ اليوم أهم معلم ديني في المدينة، يحجّ إليه الزوار، زرافات ووحدانا، والذي يمثل مع جامع العرب أهم ملامح الحضور العربي القديم في هذه المدينة العظيمة والتاريخية والساحرة. فهذا الوجود العربي بات يشكل اليوم أحد أهم ملامح هذه المرحلة العربية، بكل ما فيها، وشاهداً على واحدةٍ من أهم محطّات تاريخ العرب الحديث، وهذه المرحلة ستمثل محطة مهمة وفارقة في التاريخ العربي الراهن، لمدى التحوّلات التي تعيشها هذه النخب والأجيال الشابة العربية التي تتربّى في هذه المدينة، وتكتسب طابعاً مغايراً في التفكير والعادات والتقاليد الجديدة لهذه المدينة التي تسلب ساكنيها قدرتهم على مقاومة إغرائها وإغوائها معاً.
ثمّة جيل إن لم يكن أجيالاً عربية إسطنبولية تعيش مرحلة صراع هوياتي وثقافي كبير. صراع تعيشه هذه الأجيال في المدارس والجامعات والشوارع الإسطنبولية الآسرة، وما يناقض ذلك داخل البيت، بين ما يرونه في هذه المدينة وما يشاهدونه ويقرأونه ويسمعونهم يومياً في وسائل التواصل والقنوات في بلدانهم، وحديث أمهاتهم وآبائهم واتصالاتهم الدائمة في الداخل وحكاياتهم التي لا تنتهي، ما يولد تفكيراً مزدوجاً لدى هذه الأجيال قد تولد لديها أزمة هوية مستقبلا. ولكن مع ذلك تشكّل ظاهرة المعارض والفعاليات الثقافية واحدةً من الوسائل التي تساعد في التغلب على بوادر أزمة الهوية لدى هذه الأجيال العربية الإسطنبولية.
ما أريد قوله هنا إنه، على الرغم من كل ما يقال عن مظاهر العنصرية، التي تعكس، في أغلبها، ارتدادات الإحماء الانتخابي التركي، إلا أن للعرب وجودهم المحترم والمُعتبر والمرحّب به أيضاً من الحكومة التركية، رغم كل ما تنشره وسائل التواصل وقنوات المعارضة وإعلامهم عن عدم رضى الشعب التركي وعدم ترحيبه بالوجود العربي في هذه المدينة وغيرها، إلا أن الشارع التركي العادي لا يحمل كل هذا القدر من الكراهية الذي تروّجه خطابات المعارضة التركية المأزومة.
استمرارية إقامة فعاليات معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي، جعلته تقليداً دائماً يصعب إيقافه، رغم حدّة خطاب الكراهية المعارض، ما يعطي انطباعاً كبيراً وطيباً عن مدى تفهم الحكومة والشعب التركيين لهذا الوجود العربي. وجود يمثل أحد أهم روافد الاقتصاد التركي الراهن، عدا عمّا يمثله الحضور النخبوي العربي من قوة دبلوماسية ناعمة للسياسة الخارجية التركية، وخصوصا وأن ثمّة أهم المحطات الفضائية العربية، التي تُخاطب عشرات ملايين العرب في الداخل، وما يمثله هذا من رصيد لتركيا في الشارع العربي أيضاً، وهي الدولة التي تهمها جسور التواصل الدائم مع هذه البلدان المهمّة لتركيا الحاضر والمستقبل.
الوجود العربي في تركيا اضطراري مؤقت، قد يطول أو يقصر، لكن ما يهم هنا أن الأجيال التي تربت في هذه المدينة، وتخرّجت من مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، سيكون لها يوماً ما حضور سياسي وثقافي في بلدانها حينما يرجعون إليها وحتما سيرجعون، وسيمثل هذا كله شيئا ذا قيمة لتركيا، وموقفها مع هذه الأجيال والجاليات عظيم لا شك، وردّ هذا الجميل لتركيا لن ينساه أحد مرّ في هذه البلاد واستنشق هواءها.
أما المعارضة التركية المأزومة، فرغم أنها تدرك أهمية الوجود العربي في هذه البلاد، وما يمثله من أهمية لتركيا، إلا أنها تصرّ على استخدام ورقة من تسمّيهم اللاجئين العرب في خطابها السياسي، في دلالةٍ كبيرةٍ على حالة الإفلاس السياسي لهذه الأحزاب، خصوصا وأنها تدرك أن جزءا كبيرا جدا من هذا الوجود لا يمكن أن تنطبق عليه شروط اللاجئ مطلقا، ولا تصرف عليهم الدولة التركية ليرة واحدة، بل العكس، فحجم الصرف العربي يدرّ عملة صعبة على اقتصاد تركيا الذي يعاني ككل اقتصاديات العالم اليوم.
ختاماً، لوحظ على النسخة السابعة لمعرض الكتاب العربي في إسطنبول ارتفاع أسعار الكتب بشكل كبير، وحضور لافت لدور نشر تركية باللغة العربية، وبطباعة فاخرة ورخيصة، وإقبال كبير للأجيال الشابّة على المعرض، رغم ما يُقال عن الكتاب الإلكتروني وتراجع الكتاب الورقي، عدا عن ذلك، لوحظ غياب دور نشر كثيرة شاركت في النسخ السابقة. ومع ذلك، حضرت دور نشر أخرى، وربما هذا بسبب تزامن المعرض مع معرض الرياض، كما لاحظت ولاحظ من زار المعرض الحضور الكبير للكتاب الإسلامي بشكل لافت، وتراجع الكتاب الفكري أيضاً.
من الملاحظات أيضا عدم التنظيم الدقيق للمعرض كالمعارض السابقة، فلم يكن ثمّة أي تنظيمٍ جيد للفعاليات الثقافية على هامش المعرض، فلا قاعات معدّة جيدا للمحاضرات، ولا أماكن للجلوس كالمقاهي والمطاعم أيضاً، عدا عن رداءة دورات المياه والمسجد المخصص للصلاة بعكس العام الماضي. ويُقال إن هذا كله مرجعه الإحماء الانتخابي التركي بين الحكومة ومعارضيها، ما ينعكس سلبا على إسطنبول العربية.
*نقلا عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة