في الثاني من أكتوبر الحالي انتهت في اليمن هدنة لم تقف الحرب بموجبها، ولم تعد الحرب إثر نهايتها بشكل كامل، واستمر الوضع – وما يزال – بلا هدنة تمنع الحرب ولا حرب تسقط الهدنة، حيث استمرت الاشتباكات خلال الهدنة بين الحين والآخر، وظلت بعدها على ما هي عليه أثناء هذه الهدنة.
وخلال فترة الهدوء حرص الحوثيون على القيام بعدد من الاستعراضات العسكرية، في رسائل موجهة لداخلهم أكثر مما هي موجهة لخارج اليمن. بالنسبة لهم فإن الحرب وسيلتهم لتماسك الجبهة الداخلية، ولاستمرار قمع الأصوات التي ترتفع يوماً بعد آخر ترفض نموذجهم في إدارة الدولة في مناطق سيطرتهم، على المستويات والصعد المختلفة، ولذا يسعون لتفجير الوضع عبر الاستمرار في طرح الشروط التعجيزية، فيما تسعى الأطراف الدولية والإقليمية لتثبيت وقف إطلاق النار.
على الجانب الأمريكي تريد واشنطن هدنة وإن لم تؤد إلى سلام، الهدنة مهمة للإدارة الديمقراطية التي ترغب باستعمالها ورقة انتخابية ضد الجمهوريين. ترى الإدارة الحالية أنها لم تنجح في الكثير من وعودها الانتخابية، داخلياً وخارجياً، وتخشى من عقاب الناخب الأمريكي. لم يحدث أي اختراق في ملف الصراع في الشرق الأوسط، ولم تنجح الإدارة في احتواء الصين، وجاءت حرب أوكرانيا لتزيد الأمر تعقيداً، ناهيك عن عودة الرئيس جو بايدن من قمته الخليجية دون جدوى تذكر فيما يخص رفع مستويات إنتاج الطاقة، الأمر الذي حدث عكسه فيما بعد، وهو ما يفاقم مشاكل الإدارة الحالية التي لم يعد لها من نجاح في المنطقة إلا أن تقول بأنها أنجزت هدنة يمنية لا تؤدي إلى السلام الشامل وتمنع عودة الحرب الشاملة.
المهم بالنسبة لواشنطن هو استمرار الهدنة، حتى ولو لم يكن هناك حوار حول الحل السلمي، الهدوء مفيد كورقة انتخابية، حتى وإن أدى تجديد الهدنة دون حل شامل إلى تكريس واقع التقسيم في اليمن، باحتفاظ الأطراف بما تحت يدها من إمكانات وموارد، ما يؤدي إلى حالة من اللاحرب واللاسلم، أو من الحروب الداخلية الصغيرة في البر اليمني، بعيداً عن الشواطئ وطرق الملاحة البحرية التي تهم القوى الدولية، لضمان أمن موارد وخطوط الطاقة العالمية تحديداً.
وفي سياق الهدنة يمكن الإشارة إلى الدور الإيراني، فإثر رفض الحوثيين تجديدها تواصل المبعوث الدولي هانس غروندبيرغ بوزير الخارجية الإيراني، بعد أن بات واضحاً أن إيران ترسم للحوثيين خطوطها العريضة التي يتحركون وفقاً لها، وإذا قرأنا ذلك في ضوء الاتصالات السعودية الإيرانية بوساطة عراقية، وأضفنا لذلك مساعي إحياء الاتفاق النووي التي لم تمت رغم تعثرها، وإذا رُبطت الخطوط ببعضها فإن هدنة اليمن يمكن أن تتداخل في نسيجها عدة مصالح دولية وإقليمية، وهو ما يجعل الهدنة صامدة رغم عدم تجديدها، ورغم الخروقات المستمرة، ذلك أن الإيرانيين يريدون الاستثمار فيها في فيينا وفي الإقليم، والديمقراطيين الأمريكيين يريدون صب نتائجها في صندوق الانتخابات، ناهيك عن رغبة أوروبية في استمرار الهدنة لأسباب لها علاقة بشتاء يريد الرئيس الروسي له أن يكون قارساً في أوروبا ليساعدهم في المعركة، طالما أن موسكو تنظر للشتاء كحليف حرب.
أما عن شروط الهدنة فقد تقدم المبعوث الأممي باقتراح هو الأكثر شمولية حتى الآن، يشمل دفع المرتبات ورفع عدد الرحلات من وإلى مطار صنعاء، وفتح ميناء الحديدة، والشروع في مشاورات سياسية تمهيداً لمفاوضات سلام، لكن الحوثيين يريدون من الحكومة دفع المرتبات دون أن يسلموا هم إيرادات ميناء الحديدة التي نص اتفاق استوكهولم على إيداعها ضمن حساب خاص في البنك المركزي اليمني، فرع الحديدة، لتسديد مرتبات الموظفين، مع ما يتم دفعه من إيرادات الحكومة، علاوة على أن الميليشيات تريد من الحكومة صرف مرتبات عسكرييها الذين يراد للحكومة تحمل مرتباتهم فيما يتفرغون هم لمحاربتها!
وهنا يريد الحوثيون أن يصلوا باليمن إلى حالة لبنانية، أو أن يكون لهم وضع كوضع حزب الله في لبنان، أي أن تتحمل الحكومة المسؤولية فيما هم يتمتعون بالسلطة، حيث يصبحون سلطة على شكل معارضة، سلطة بحيازتهم الكعكة، ومعارضة بعدم تحملهم المسؤولية، وهو وضع مريح يجنون من خلاله المكاسب، وتتحمل الحكومة بسببه الخسائر، تماماً كوضع حزب الله الذي يشكل دولة داخل الدولة، أو سلطة فعلية متحكمة، داخل سلطة صورية حاكمة.
وبطبيعة الحال فإن سلاح الحوثيين سيكون أشبه بسلاح حزب الله، فوق المساءلة، لأنه «سلاح مقاومة»، حسب التوصيف الإيراني للمقاومة.
ورغم انتهاء الهدنة تستمر جهود تمديدها، وهذا يفسر ـ بالإضافة إلى ما سبق ـ الامتناع عن تفجير الحرب مجدداً، حيث تستمر الاتصالات الدولية والأممية والإقليمية، وتتحرك عواصم مختلفة في محاولة لتجديد هدنة تبدو جميع الأطراف مستفيدة منها، لكن عرقلتها تأتي من حرص كل طرف على أن يحقق أقصى ما يمكن تحقيقه من خلالها، الأمر الذي لايزال محل أخذ ورد يمنع الإعلان عن تمديد هذه الهدنة التي تم اختصار عملية السلام فيها، تماماً كما تم اختصار الأزمة اليمنية في أبعادها الإنسانية، وهو الأمر الذي أدى إلى الاهتمام بالعَرَض بدلاً من معالجة المرض، أو الاهتمام بالمُسكّنات دون العلاج، أو التركيز على النتائج دون الأسباب، وتكمن الخطورة هنا في أن مثل هذه الإجراءات تعد من قبيل الهروب إلى الأمام، أو نوع من سلق طبخة سريعة غير ناضجة، بسبب أن الذي يعدها لم يعد لديه الوقت الكافي، بسبب جملة من الظروف الموضوعية الضاغطة التي تحتم الانصراف عن البعد السياسي للأزمة إلى البعد الإنساني، والهروب من متطلبات الحل السياسي الشامل إلى مقتضيات هدنة تلبي لبعض الأطراف أهدافها البعيدة عن مطامح اليمنيين في حل نهائي عادل ودائم لحرب يراد لها أن تتوقف دون أفق سياسي يفضي إلى استعادة الدولة، وتطبيع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لليمنيين الذين أنهكت بلادهم تلك الحرب التي لم تبدأ في الواقع في مارس 2015، ولكنها بدأت قبل ذلك في 2004 عندما دشّن الحوثيون ما عُرف بالحروب الست في محافظة صعدة.
إن العجز عن إيجاد الحل الشامل كان الدافع الرئيسي للمجتمع الدولي للبحث عن الحلول الجزئية، كما رأينا في اتفاق الحديدة، كما أن العجز عن التسوية السياسية هو الذي أدى إلى التركيز على الأزمة الإنسانية في اختصار واضح للمشكل السياسي في البعد الإنساني، تماماً، كما أن التفكير في الحل السياسي نتج عن الإدراك بأن الحل العسكري يفقد بريقه، بعد أكثر من سبع سنوات حرب.
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم