لعب الدين ـ وما زال ـ دوراً محورياً في بناء الشخصية القومية لكثير من الأعراق والشخصية الثقافية لكثير من الأمم، والملامح الحضارية لكثير من الامبراطوريات، وكان له الدور الأبرز في تحديد مسار الكثير من المجموعات البشرية وصياغة شخصياتها الحضارية، إذ لم تقم في الماضي حضارة من الحضارات القديمة أو حضارات العصور الوسطى إلا وكان الدين لاعباً رئيسياً في قيامها، بما في ذلك حضارات الشرق القديمة والحضارات اليونانية والرومانية والصينية، إضافة إلى الحضارات الأمريكية القديمة، وهي كلها حضارات قامت على أبعاد دينية ذات طبيعة روحية انعكست على مختلف مناحي الحياة سياسياً واقتصادياً واجتماعيا.
وعبر التاريخ كانت الدولة غالباً تبنيها قبيلة ذات ثقافة روحية، تتحول فيما بعد إلى دولة ذات طابع حضاري، كما هو الشأن بالنسبة للقبيلة العربية التي بنت دولاً عديدة بعد أن أعطاها الإسلام طاقة روحية هائلة، انتقلت بها من «بيت الشَّعْر» إلى «ردهات القصر»، أو من «تل الرمل» إلى «ضفة النهر»، او باختصار من دور «الأعرابية» إلى طور «العربية»، عبر رحلة طويلة وشاقة شابها الكثير من الفشل والنجاح، في محاولات تجسيد المثال في واقع، أو تحويل القبيلة إلى شعب، أو الانتقال من «الدور الرملي الأعرابي» إلى «الطور المائي العربي».
وقد كان هذا الانتقال مصحوباً بجملة من التغيرات التي طرأت على البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمجتمع تلك القبيلة التي غادرت البادية في رحلة طويلة نحو النهر، بكل ما تعنيه كلمة البادية من اختزالات ودلالات، وما تعنيه مفردة النهر من أبعاد وإشارات.
وقد مثل العرب واحدة من أبرز ظواهر تشكيل الدين لشخصية الجماعة البشرية، وانتقالها به من طور القبيلة البدوية إلى مرحلة الدولة الإمبراطورية، حيث جاء الإسلام والقبيلة العربية تعتمد أنماط حياة روحية واقتصادية واجتماعية لا تساعد على بناء دولة، من مثل التقوقع في البيئة الصحراوية، واعتماد طرق كسب لا تقوم على وسائل الإنتاج اللازمة لبناء الدولة من زراعة وصناعة وتجارة، قدر ما تعتمد على طرائق السلب والغزو والثأر، وهو ما أسهم في بقاء تلك القبيلة حبيسة باديتها، تأكلها حروبها الداخلية التي سميت بـ«أيام العرب»، وهي التسمية التي تشير إلى كثرة اصطباغ وقت تلك القبيلة بالدم.
ومع مجيء الإسلام حدث شيء أشبه بالمعجزة لتلك القبيلة، إذ لم ينته القرن الهجري الأول إلا وقد مدت هذه «القبيلة» دولتها من حدود الصين إلى بلاد الأندلس التي ظلت بها ثمانية قرون، مع اصطباغ المنطقة الواقعة على حدود الصين وأواسط آسيا وصعوداً إلى الأناضول وبلاد القوقاز والبلقان وجزيرة العرب وشمال أفريقيا والأندلس بصبغة جديدة كان الباعث الأكبر لها هو الإسلام الذي أعاد صياغة الهوية الثقافية لكثير من شعوب تلك المناطق الجغرافية الواسعة، ناهيك عن مناطق شاسعة في شرق آسيا وأفريقيا أعادت صياغة شخصيتها الحضارية بعد أن أصبحت ضمن نطاق التأثير الروحي لتلك الدعوة التي انطلقت من جزيرة العرب ذات حين من القرن السابع الميلادي.
وفي هذا المساق، يمكن مقارنة ظروف القبيلة العربية بالقبيلة التركية ضمن النطاق الروحي الإسلامي، حيث نجد الكثير من التشابه بين المجموعتين البشريتين، إذ مرت القبيلة التركية بظروف مشابهة، أثناء تنقلها في مراعي أواسط آسياً وصولاً للأناضول وشرق أوروبا والعالم العربي، ومساحات جغرافية شاسعة، مع تحولات كبرى شهدتها تلك القبيلة البدوية أثناء بنائها للدول التركية المتعددة التي انتهت إلى الإمبراطورية العثمانية.
عبر التاريخ كانت الدولة غالباً تبنيها قبيلة ذات ثقافة روحية، تتحول فيما بعد إلى دولة ذات طابع حضاري، كما هو الشأن بالنسبة للقبيلة العربية التي بنت دولاً عديدة بعد أن أعطاها الإسلام طاقة روحية هائلة، انتقلت بها من «بيت الشَّعْر» إلى «ردهات القصر»
وخلال تلك المراحل كان للإسلام الدور الأبرز في انتقال الترك من دور «القبيلة الأوغوزية» إلى طور «الإمبراطورية العثمانية»، أو من مرحلة «البداوة المرتبطة بالطوطميات الطبيعية» إلى مرحلة «الحضارة المرتبطة بالديانات السماوية»، عبر رحلة طويلة أقرب ما تكون لرحلة القبيلة العربية، شكلت خلالها القبيلة التركية دولاً وامبراطوريات كان أشهرها الدولتان السلجوقية والعثمانية.
وما قيل عن المجموعتين البشريتين: العربية والتركية، يمكن أن يقال مثله عن غيرهما من المجاميع البشرية الأخرى التي كان للأديان دور في صياغة شخصياتها الحضارية، مع الإقرار بطبيعة الفوارق الثقافية والروحية التي تميز مجموعة بشرية عن أخرى.
وفي الوقت الذي جاء الإسلام فيه على العرقين: التركي والعربي وهما قبائل متناحرة فتوحدوا به وانطلقوا لبناء دول تحولت إلى امبراطوريات كبرى، فإن الإسلام والمسيحية جاءا إلى العرقين: الفارسي والرومي وهما امبراطوريتان كبيرتان، فتباينت طرائق تعامل الامبراطوريتين إزاء هذين الدينين.
أما الأولى فقد ناصبت الإسلام العداء المرتبط بأبعاد قومية لم تسوغ لكسرى فارس أن يدخل في دين من يعتبرهم ضمن خدمه ورعاياه، الأمر الذي انتهى بالإمبراطورية إلى التفكك والانهيار، لترثها دولة القبيلة العربية الفتية، وهو الأمر الذي أحدث رجة عنيفة في الوجدان الفارسي ظلت أصداؤها تتجاوب في الكتابات الفكرية والإنتاج الأدبي والتوجه الديني إلى يومنا هذا، وتجلت هذه الرجة في نوع من محاولات التميز عن «دين العرب» الذي بدأ ينتشر على المستويات الشعبية التي عانت من ظلم النخب الحاكمة التي ظلت – مع مراكز القوى المرتبطة بالإمبراطورية الساسانية المنهارة- تسعى للتميز عن الدين الجديد، فيما سعت نخب أخرى إلى التميز عن أصحاب هذا الدين بعد أن دخلت فيه.
ومن هنا يشير الكثير من المؤرخين إلى الأبعاد السياسية لكثير من التيارات والفِرَق المرتبطة بمراكز القوى المذكورة، وهي التيارات والفرق التي نشطت في العصر العباسي والتي اتخذت توجهات دينية وأدبية وثقافية واجتماعية مختلفة، أبرزها تيارات «الزندقة» و«الشعوبية»، حيث اتجهت الأولى إلى ضرب الأسس العقدية للفاتحين العرب، فيما توجهت الثانية إلى محاولات النيل منهم حضارياً وثقافياً واجتماعياً وأدبياً، على أسس عنصرية.
وهنا، يمكن الإشارة إلى الكثير من الملامح والآثار المتسربة في «التشيع» الذي أريد له أن يكون الحامل الروحي «للقومية الفارسية»، تمييزاً لها عن «الغزاة العرب» بعد أن اشتركت هذه القومية معهم في دين واحد، حيث دخلت الكثير من الأفكار والمعتقدات التي حولت التشيع من «تشيع ديني علوي» إلى «تشيع سياسي قومي»، أريد له أن يميز قومية مغلوبة على أخرى غالبة، الأمر الذي يظهر جلياً في الفروق العقدية والفقهية بين مذهبي الأغلبية والأقلية في الإسلام.
أما الرومان فظلت دولتهم بعيدة عن التأثر بالمسيحية حتى عهد الإمبراطور قسطنطين، حين بدأ التحول الروماني نحو المسيحية، وقد أسهم هذا التحول باندفاعة رومانية كبيرة كان طابعها المسيحي واضحاً، قبل أن تبالغ هذه الإمبراطورية في اعتصار المسيحية سياسياً، وتمارس باسمها أنواعاً من الظلم والاضطهاد، وهو ما كان أحد أسباب طردها من مناطق شاسعة في المشرق لصالح الإسلام الذي رأت فيه شعوب تلك المناطق حركة تحرر ضد الاضطهاد الروماني، قبل أن تعتنق أكثريتها الدين الجديد.
وفي حين أن الفرس حاولوا تكييف نسخة من الإسلام تتسق وطموحاتهم القومية عبر ما يمكن أن نطلق عليه «تفريس الإسلام»، فإن الرومان حاولوا كذلك «رومنة المسيحية» بنقل الكثير من معتقداتهم إليها، مثل فكرة التثليث التي تعد في الأساس مصرية قديمة – إيزيس وأوزوريس وحورس – نُقلت إلى الإغريق، ثم ورثها الرومان الذين نقلوها وطوروها بدورهم إلى المسيحية حتى أصبحت أساس اللاهوت المسيحي اليوم.
ومهما يكن، فإن المؤرخين يجمعون على أن الحضارات الكبرى عبر التاريخ كانت تستند إلى محتوى ديني، وأن الأعراق العربية والتركية والرومانية والروسية – كمثال ـ مدينة للإسلام والكاثوليكية والأرثوذوكسية بالكثير من عناصر نهوضها وتطورها. ورغم الحروب والصراعات الملتبسة بالدين، والتي جعلت الكثيرين ينادون بعزله عن الحياة العامة، إلا أن مكان الدين كان على الدوام في صلب كل الحضارات العالمية الكبرى.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم