يُشبِّه يوهان جوته، أشهر أدباء ألمانيا، السخرية بذرة الملح التي تجعل ما يقدم إلينا مستساغاً. و يصفُها أناتول فرانس، روائي و ناقد فرنسي، بأنها مرح التأمل ومتعة الحِكمة. و يعتبر الفيلسوف و اللاهوتي الدنماركي سورين كيركغارد أن وجود السخرية لا يعني بالضرورة أن الجدية مستبعدة، بل أنها من مواصفات الموضوعية.
من رؤية نفسية، يحلل ألفرد أدلر، مؤسس مدرسة علم النفس الفردي، السخرية بأنها " خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز: فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز، فإذا عدا الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا، من أية ناحية من النواحي، بعثت فينا غريزة المقاتلة والانفعال المقترن بها، وهو الغضب، فدفعا بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا أو ممن أثاره في نفوسنا. ولا يخلو هذا من عنصر الزهو، لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها".
السخرية، السياسية منها تحديداً، سلوك إنساني قديم، موجود في كل الثقافات. مثلاً، يمكن للمرء أن يضحك كثيراً من التعليقات التهكميّة من أمريكيين و غير أمريكيين على تغريدات ترمب، مثلما يضحك عند قراءة نوادر ساخرة في التراث الإنساني.
أدبياً، يستخدمها كثير من الأدباء و الكتاب كأسلوب للنقد و التعبير عن التمرد و الرفض للواقع. من أشهر الأدباء العرب في هذا المجال الجاحظ، صاحب كتابي البخلاء و الحيوان المملوئين بالسخرية من المظاهر الحياتية و السياسية الرديئة التي عاصرها، و استخدم الأسلوب الفكاهي التهكمي في انتقادها. و لعل من أشهر الساخرين في العصر الحديث الإنجليزي برنارد شو و الأمريكي مارك توين.
للسخرية السياسية مظهر آخر شعبي، أي كنكتة باللهجات الدارجة تنتشر بشكل خاطف و غالبا لا يُعرف مصدرها الأول. و نحن بصدد تناولها في حالتنا اليمنية، حيث انتشرت بشكل واسع بعد 2011، خاصة مع شيوع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
ارتبطت كثير من الأحداث التي شهدتها اليمن بما نتج عنها ما ملهاة ملثما نتج عنها من مأساة. كانت و مازالت السخرية أو النكتة السياسية وسيلة فعالة للتعبير عن السخط و الاستحقار و الرفض للنظام السياسي الفاسد و الثورة عليه، ثم لواقع جديد قديم فرض عليهم بالقوة في غفلة مريرة للتاريخ. عبرها يقول الناس "لا" بطريقة بارعة و بلغة بسيطة يفهمهما الجميع، و فعالة لما تحمله من بساطة و فكاهة و معان.
مما يجعل السخرية فعالة، أنه لا يمكن محاصرتها أو احتواءها، فمصدرها في الغالب مجهول، لا يمكن ملاحقته أو حظره. و لأنها تنتشر على نطاق واسع و من عشرات أو مئات الآلاف، يشعر مرددوها بأنهم أقل عرضه للخطر من أي ملاحقة فلا يمكن حصر العدد الهائل من الساخرين و يصعب القبض على شخص لأنه قال شئيا ساخراً، ردده معه الآلاف. إنها تُشعر المُستهدف بالإرتباك.
كما أن السخرية تهشم الزعامة الكهنوتية أو الشعبوية، بعد كل خطاب يلقيه هذا أو ذاك. فما تعودوا أن يتم الترويج له من قبل حاشيتهم "الثقافية و الصحفية" و متزلفيهم، بأنه وطنية لا نظير لها و عبارات تاريخية و بُعد رؤية ثاقبة و قراءة مستقبلة استشرافية و رسم للاستراتجيات و قلب للمعادلات، أصبح يتم استقباله بكل استخفاف و استحقار و تهكم لاذع، و بأسلوب يُفقد أعوانهم القدرة على التعامل مع الخطاب بشكل جاد وسط محيط من السخرية، التي ستتحول لتشمل كل من يفكر بالتعامل مع الخطاب بجدية و يحاول التنظير له. في المقابل تملك هذه السخرية مظاهر من الجدية، فالسخط و الرفض و التمرد الذي يفوح منها، يكون جاداً جداً.
و بما أن هؤلاء الزعماء يعتمدون على إحاطة أنفسهم بالقداسة و الهالة الزائفة، من أجل حشد الجماهير و الأتباع حولهم، فإن مواجهتهم بالسخرية لابد أن تترك أثراً في نفوس أتباعهم. فالإنسان يقدس أو يعظم ما يعتقد أنه ذو قوة و سطوة لا تقهر، و السخرية أداة لتهشيم هذه القوة (لست مقدساً و لا مخيفاً بل مثير للسخرية.. من الأفضل أن تنظر لنفسك في المرآة لتشعر بالاشمئزاز).
إذن السخرية جادة بما تحمله من انفعالات في تعاملها مع ما يحدث من تراجيديا بكوميديا. كما أن اسقاط الزعامة الشعبوية و الكهنوتية الهشة أو تهشيم المقدس الزائف، من أعلى قيم السخرية.
تُعبر قدرة اليمنيين على تحويل مظاهر المأساة إلى ملهاة، عن قدرة على التمسك بالحياة؛ في الرغبة بالضحك بطريقة متمردة، أسلوب لا يعني أبدا اللامبالاة. هم بذلك ليسوا فريدين عن محطيهم و عالمهم، فالتعبير الساخر موجود منذُ أن أدرك الإنسان أنه قادر على الرفض و الاعتراض، أو منذُ أن دخلت "لا" في قاموسه اللغوي.
في حالتنا، يمكن اعتبار السخرية، أيضاً، وسيلة لتوثيق الوضع و الواقع الذي نعيشه، توثيق للتاريخ و الأجيال القادمة. في تراثنا العربي تعتبر النوادر في غالبها نوع من السخرية، تُسجل الوضع الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي للزمان و المكان الذي ظهرت فيه، مثل نوادر جحا. هذا الأمر يحتاج إلى تجميعها و تصنيفها حسب الأحداث أو القضايا، مع تقديم سردي لخلفية كل حدث أو قضية ذات ردات فعل ساخرة.
اقراء أيضاً