مرّ حكيم ذات يوم على غراب يقف إلى جوار عصفور، فتساءل بينه وبين نفسه حائراً عمّا يجمع بينهما في مكانهما على الأرض؟!
وقد بدا له أن يتوقف قليلاً ليتأمل مشهدهما معاً، لأنه ليس من المعتاد أن يلهو عصفور مع غراب، ولأنهما آخر طائرين بين الطيور يمكن أن يلعب أحدهما مع الآخر، ولأن الفارق بين طبيعة كل منهما تجعل اجتماعهما في مكان واحد من الأشياء النادرة. وبينما كان الحكيم يحدِّث نفسه بهذه المعاني لفت نظره أن الغراب يتحرك من مكانه في بطء واضح، وأنه يحجل على قدم واحدة، وكذلك كان يفعل العصفور، وكان السبب أنَّ شيئاً أصابهما فأعاق قدرتهما على الحركة والطيران!
ابتسم الرجل الحكيم وهو يرقبهما من بعيد، ثم قال فيما يشبه الحكمة الباقية. قال: جمعت بينهما المصيبة، ولولاها ما جمع بينهما وجه شبه ولا ضمهما مكان!
شيء من هذا مرّ أمامي، وأنا أتأمل موقع العاصمة اليمنية صنعاء على خريطة المنطقة، ثم موقع العاصمة الليبية طرابلس في الغرب على الخريطة نفسها، ثم أتساءل بيني وبين نفسي: ماذا يا رب يجمع بينهما مع ما نعرفه عن أن الأولى تقع في قارة، بينما الثانية تستقر على شاطئ البحر المتوسط في قارة أخرى؟!
ومع قليل من التأمل في حال العاصمتين العربيتين، سوف تكتشف أن ما قد يجمع بينهما على بُعد المسافة الفاصلة بين الموقعين، هو ذاته ما جمع في يوم من الأيام بين العصفور والغراب، وهو نفسه ما كان قد لفت انتباه الرجل الحكيم، وبالطبع مع مراعاة ما بين العواصم والطيور من فروق.
فقبل ساعات كان سلطان البركاني، رئيس مجلس النواب اليمني، قد اصطحب معه أعضاء هيئة رئاسة المجلس، ومعهم النواب الأعضاء، واتجهوا جميعاً إلى مدينة عدن في جنوب اليمن، حيث كان سينعقد مجلس النواب هناك ليؤدي أمامه الدكتور رشاد العليمي، ونوابه السبعة، اليمين الدستورية التي تضع أمور الدولة في يده هو والنواب السبعة خلال الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية.
حدث هذا بعد أن كان الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، قد قرر نقل صلاحياته كاملة إلى مجلس رئاسي يرأسه العليمي ويتولى إدارة شؤون البلاد.
ومع المجلس الرئاسي أمام البرلمان، كانت الحكومة برئاسة الدكتور معين عبد الملك ستلقي بيانها، وكان مجلس النواب سيستمع إليه، وكان سيمنحها الثقة، وكان إلى جوار هذا كله سينظر في عدد من القضايا الوطنية التي تخص أهل اليمن.
وكان الخبر المنشور يصف مدينة عدن بأنها العاصمة المؤقتة للبلاد، وكان المعنى أن هناك عاصمة رسمية للبلاد ذاتها اسمها صنعاء، ولكن المفارقة أن مجلس النواب غير قادر على عقد جلساته فيها، ولا الحكومة قادرة على دخولها، ولا المجلس الرئاسي قادر على أن يذهب إليها، لا لشيء، إلا لأن الجماعة الحوثية تغلق أبوابها منذ دخلتها قبل سنوات واستولت عليها.
ولا بد أنه شيء صعب على النفس للغاية، ولا بد أنه شيء أصعب على نفس كل عربي، لا على نفس كل يمني فقط، أن يصل الأمر بهذه العاصمة ذات التاريخ إلى حد أن تكون الحكومة الشرعية في البلد غير قادرة على دخولها وعقد اجتماعاتها فيها، وأن يجد المجلس الرئاسي الوليد أنه مضطر إلى أداء اليمين الدستورية في مدينة ليست هي العاصمة الرسمية لليمن، وأن يكون البرلمان مرغماً على أن يعقد جلساته في غير صنعاء التي عاش اليمنيون لا يعرفون عاصمة لهم سواها بين مدن اليمن السعيد.
يجد المجلس الرئاسي صعوبة في دخول العاصمة، لا لأن عدواً أجنبياً دخلها واحتلها وتحصن فيها، ولكن لأن جماعة حوثية دخلتها بالقوة، وتحصنت فيها، وطاردت أبناءها، وأغلقت أبوابها، ومنعت السلطة الشرعية من ممارسة مسؤوليتها تجاه مواطنيها على أرضها!
إن اليمني الذي يُخلص الولاء لبلده، قد يتصور أن تكون حكومته عاجزة عن الوجود في العاصمة، لأن عدواً خارجياً تسلل في الليل واستولى عليها. قد يتصور اليمني صاحب الولاء الصادق لأرض بلده هذا الأمر لأي سبب من الأسباب، ولكنه أبداً لا يستطيع أن يتخيل أن تكون جماعة يمنية هي التي فعلت ذلك، وهي التي تَحول دون وصول الحكومة إلى مقرها الرسمي في العاصمة، وهي التي تحرّم العاصمة على غيرها من أبناء اليمن.
أقول جماعة يمنية، ولا أقول جماعة حوثية، لعل جماعة الحوثي تنتبه إلى خطر ما تسعى إليه منذ دخلت العاصمة، ولعلها تدرك أن يمنيتها لا بديل عن أن تكون سابقة على حوثيتها، وأن هذه الأسبقية تدعوها إلى أن تنصت إلى صوت الوطنية لا هاجس الطائفية، وأن تَركن إلى نداء العقل، وأن تقدم ما يخص سلامة اليمن وأمنه على كل ما عداه، وأن تجعل من الهدنة المؤقتة المعلنة أول رمضان هدنة دائمة، وأن تمنح مشاورات السلام الجارية فرصة الوصول إلى صياغة جادة تؤسس لسلام يدوم في أرض سبأ.
أقول جماعة يمنية لأن اليمن هو الأصل، ولأن الحوثي هو في النهاية فرع، وليس من الجائز أن يعلو الفرع على الأصل، ولا من الوارد أن يتقدم الفرع ليتأخر الأصل، وإذا جاز هذا أو كان وارداً فهو لا يدوم مهما طال، لأن في دوامه ما يصطدم بطبائع الأشياء.
ولم يكن الدكتور عبد الملك هو وحده الذي يرغب في الذهاب بأعضاء حكومته اليمنية إلى صنعاء ثم لا يستطيع، فهناك بالتوازي على شاطئ المتوسط حكومة أخرى يرأسها فتحي باشاغا، ولا تزال غير قادرة على دخول العاصمة طرابلس، رغم أنها حازت ثقة البرلمان من أسابيع!
ففي طرابلس تتحصن الحكومة السابقة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، الذي يرفض السماح لباشاغا بدخول العاصمة، ولا يزال باشاغا يحاول الوصول إلى مقر الحكومة ولكن من دون جدوى، ولا يزال يقول إنه لا يريد دماً ولا عنفاً ولا قوة في الذهاب إلى هناك ولكن من دون فائدة.
وفي آخر الأخبار أن الدبيبة عرف أن الحكومة الجديدة تحاول دخول العاصمة، وأنه سيبذل كل ما في وسعه لمنع تسلل باشاغا إلى طرابلس!
وهكذا جاء علينا زمن تعقد الحكومة اليمنية فيه اجتماعاتها في عدن، وهي ترى صنعاء من بعيد، ثم لا تعرف كيف يمكنها دخولها، كما تدخل أي حكومة شرعية في العالم عاصمتها، من دون أن تكون في حاجة إلى الدوران حول أسوارها، ولا إلى استئذان جماعة تتحصن فيها!
وجاء علينا الزمن نفسه، بينما الحكومة الليبية قادمة من الشرق إلى الغرب تطرق أبواب العاصمة، فلا ينفتح فيها باب، ولا تتاح في سورها نافذة.
لقد عشنا نسمع عن أنه لا بد من صنعاء ولو طال السفر، وقد طال سفر الحكومة إليها ولا بد منها في نهاية الرحلة، ولا بد من طرابلس أيضاً ولو طال وجود الحكومة خارجها، لأن الحكومات نشأت لتمارس مهماتها من العواصم الرسمية لا من العواصم المؤقتة!
*نقلاً عن الشرق الأوسط
اقراء أيضاً
الخطر الذي لا يحتمله اليمن!
صنعاء لن تُبدّل جلدها!
صدر الكويت الذي ضاق بجماعة الحوثي!