حين تسمع كلمة "تسامح" يخطر في بالك، سيد يتسامح مع عبد أو قوي يتسامح مع ضعيف أو طبقة عليا تتسامح مع طبقة دنيا. يضعك أمام مختلفين أحدهما أكثر تفوقاً من الآخر، المانح و الممنوح، المتسامح و المسموح له. يصبح هذا المفهوم جناية عند الحديث عن علاقة المجتمع ببعضه البعض، كمكونات و أفراد، كعلاقة يفترض أن تقوم على التكافؤ.
في الدول القائمة على المواطنة المتساوية لا يستخدم مصطلحي التسامح و التعايش. ذلك أن هذين المصطلحين يشيران أن الحقوق و الحريات و عدم التمييز مجرد فضل يعطيه لك الآخر لأنه متسامح. هبة عليك أن تنتظرها و تشعر بالاِمتنان مقابلها. كأنه بذلك قدم تنازلات. فأن تكون مختلفاً جريمة، لكن لأنه متسامح سيتركك تمارسها بحريتك.
لذلك لا نحتاج إلى مجتمع قائم على التسامح و التعايش، بل لدولة قائمة على المواطنة المتساوية، يكون فيها لفرد أو لفئة الحقوق و الحريات بحكم القانون و ليس كفضل أو مِنة من باقي الأفراد أو فئات المجتمع. حقوق و حريات محمية و مفروضة وليست خاضعة للمزاج أو ما سيقرره المختلف بأن يكون متسامحاً أو متطرفاً.
في حالتنا اليمنية، في ظل الحرب، تستخدم هكذا مصطلحات بين حين و آخر، للقفز على مسببات الحرب، و سترها، أكان عن قصد أو بحسن نية ساذجة.
فعوضاً عن التطرق للعوامل و المسببات التي فجرت الصراع إلى حرب، يتم الحديث عن التسامح ليظهر كأنه دعوة للتماهي مع الوضع الراهن؛ أي نقبل به و نحاول أن نتعايش معه. فالمسيطر عليك بالقوة عليه أن يكون متسامحاً و يجعلك تعيش و تمارس حرياتك، و المسيطر عليه يتعايش مع الأمر الواقع و يقبل بتلك السيطرة التي فرضت بالقوة. هل يمكن فهم الأمر بطريقة أخرى؟
أي مبادرة جادة على شكل اجتماع أو حلقة نقاشية أو عصف ذهني أو أي صيغة، لتناول الوضع اليمني، يفترض، أولاً، أن تتناول العوامل و الأسباب التي أنتجت الحرب، من أجل إزالتها، قبل اقتراح أي صيغ للحل، و لنفترض، جدلاً، أن الوصفة السحرية ستكون التسامح كمصطلح فني.
طبيا، التشخيص يسلتزم تسجيل تاريخ الحالة المرضية، كخطوة تسبق وصف العلاج. أي ما العوامل و الظروف التي أدت إلى تدهور الحالة و الوصول إلى المرض. من أجل التخلص أو الوقاية منها.
يعرف الجميع أن الانقلاب و السيطرة على مؤسسات الدولة و الاستحواذ على مواردها المالية و إمكانياتها العسكرية، كله السبب الأول للحرب. و إن اعتبرنا التسامح هو الحل -رغم أنه ليس كذلك-، فأي حل يمكن أن ينجح قبل التخلص من جذور المشكلة، أي حل يمكن أن ينجح حين يتم تجاوز الأسباب القائمة؟
إذا نظرنا إلى المجتمعات المختلفة عرقياً دينياً و مذهبياً، التي تعيش حالة استقرار و سلام و تنمية، لوجدنا أن السبب في كونها دول مواطنة و قانون. مواطنة متساوية يكفلها القانون، حيث أن الاعتداء على حريات و حقوق فرد أو فئة من قبل أفراد أو فئة أو فئات مختلفة، يجرمه و يعاقب عليه القانون و الدستور كعقد اجتماعي. أي لم يجعلوا الأمر خاضع للقيم -وحدها- و منها التسامح.
في ستينات و سبعينات القرن الماضي، عندما خرج السود في الولايات المتحدة في "حركة الحقوق المدنية"، لم يعودوا إلا بالمواطنة المتساوية كحق دستوري و قانوني ملزمة به الدولة، و أيضا بتجريم الممارسات العنصرية من قبل البيض، و بنصوص قانونية أيضاً. لم ينتظروا أن تتحسن أخلاقيات الأغلبية البيضاء بأن تتخلى عن العنصرية و تصبح متسامحة معهم، فيصبح ألا يكون الآخر عنصريا معك خُلقاً عظيماً و تنازلاً كريماً و ليس أمراً طبيعياً، حيث أن العنصرية هي الأمر الغير طبيعي.
الحديث عن التسامح الآن زيف و مغالطة لسببين. أولاً، أنه يتجاوز أسباب الحرب و يتعامل معها كأمر واقع علينا التفكير كيف نتعايش معه.
ثانياً، حتى في حال تم التخلص من أسباب الحرب بالعدول عن الانقلاب و الانسحاب من المدن و تسليم السلاح، فما نحتاجه وجود دولة المواطنة المتساوية و العدالة و القانون، و ليس دولة يعيش فيها المجتمع بأفراده و فئاته على رحمة أن يقبل الآخر بأن يتعايش معك أو لا، كشيء متغيّر لا يمكن الرُكون أو البناء عليه. لا يضمن الاستقرار و السلام إلا وجود دولة مواطنة و قانون تحمي الجميع من الجميع، و تضمن حقوق و حريات الجميع.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
قومية أم وطنية
عن الزعامة
في الهوية الوطنية والانتماءات الخاصة