في الحروب، تحضر المعاناة مشتركا إنسانيا يتجاوز الحدود واللغات والهويات والعرق، إذ تتكثف سردية الحروب من بشاعة القتل اليومي والتشريد، والتجويع والإفقار، وانتهاك كل قيم الحياة الآدمية وابتذالها. ومع بشاعة سرديات الحروب، فإن ما يُضاعف هذه المآسي مقاربة العالم لها، والذي يتخذ أشكالاً تحايلية ولا إنسانية، من تسليع المأساة، ومن ثم ترحيل الحلول، إلى ازدواجية النظر إلى المعاناة، إذ أن تسليع المأساة الإنسانية يحوّلها إلى مهرجان موسمي للتسوّل على حساب تأبيد معاناة شعوبها، فيما تكمن جرمية ازدواجية النظر إلى المعاناة في تسييس التعاطف الإنساني، وتوجيهه بمقتضى تحييزات الجغرافيا والسياسة والهويات، وبالتالي إفراغه من مضامينه السامية التي راكمتها الحضارة الإنسانية على مدى تاريخها.
وإذا كان التسليع الأُممي للأزمات الإنسانية قد فرض تصنيفها وفق بروباغندا مُحكمة لاستدرار أموال المانحين، بحيث أصبحت مآسي الشعوب بضاعةً لا أكثر، تتضاءل قيمتها مع الوقت، أو مع اندلاع حروب جديدة أكثر شمولية، فإن فشل هيئات الأمم المتحدة في إيجاد حلول مستدامة لتحسين الوضع الإنساني ثبت مسؤوليتها، كمنظومة تنفيذية لتكريس المعاناة، تماماً كأطراف الحرب.
في المقابل، إذا كانت ثقافة استهلاك الفُرجة على معاناة الآخرين تقتضي خصم الحروب الجديدة من رصيد التعاطف الدولي، لا الإنساني، لحروبٍ باتت قديمةً ومستهلكة، فإن تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية كشفت، وبجلاء، أن التعاطف الدولي يتحرّك وفق حساباتٍ لا علاقة لها بالقيم المساواتية التي يدعيها، وذلك بتحيّزاته حيال معاناة شعوب أخرى، فقط لأنها من هامش العالم لا مركزه.
في حالات عديدة، تتأتّى نمذجة المعاناة الإنسانية من سياقات تسويقها، لا حلها، بحيث تحتفظ، مع الوقت، بشروط استدامتها، ومن ثم مأسستها، وهو ما تؤكّده الحالة اليمنية، إذ احتفظت الأزمة الإنسانية بكونها مثالية إلى حد كبير، بالنسبة للأمم المتحدة وأطراف الصراع المحلية والإقليمية، فالمنحى الذي اتخذه الوضع الإنساني، سبع سنوات، فرض نفسه على مقاربة الحرب، لا معالجة انهيار الوضع الإنساني، إضافة إلى إدارة أطراف الصراع وهيئات الأمم المتحدة الملفّ الإنساني، وتوظيفه لانتزاع استحقاقات دولية مالية أو اشتراطات سياسية، وهو ما يتمظهر بتسييس الملف الإنساني، ومن ثم تسويقه، إذ أثر انخراط العربية السعودية، الدولة الغنية بالنفط، وأكبر المستوردين للأسلحة في الحرب في اليمن، سلبياً على الملف الإنساني، حيث قايضه المجتمع الدولي بالملف الحقوقي، وذلك بتغاضيه عن مساءلة السعودية حيال استمرار انتهاكاتها بحق اليمنيين، وتورّطه هو الآخر ببيع أسلحة للسعودية والإمارات تسببت بقتل اليمنيين، إضافة إلى الأمم المتحدة التي تواطأت مع هذا الخيار مقابل حصولها على تمويلات سعودية لمنظماتها الإغاثية في اليمن.
ومن جهة أخرى، ضاعف اضطلاع السعودية التي هي طرف في الحرب، بالعمل الإنساني من خلال مؤسسة مركز الملك بن سلمان للإغاثة، تسييس العمل الإنساني وتوظيفه لشراء الولاءات، إلى جانب غياب الرقابة على أعمال المركز التي تقام باسم اليمنيين، وإن لم يستفيدوا منها، وعدا عن مَسرحة سردية القاتل الطيب واهب النعم، فإن هذا الأداء فرض حالةً من الميوعة واللامسؤولية في إدارة العمل الإنساني، إلى جانب تجذير الفساد في كل الهيئات المنخرطة في العمل الإنساني.
وإذا كان الفساد هو شرّ سلطات الحرب، وسلاحها الفتاك في تجويع اليمنيين مقابل استثمارها المساعدات الإنسانية لصالحها، فإن هيئات الأمم المتحدة متورّطة، بشكل أو بآخر، في بنية الفساد، والذي يتمظهر في الشقّ البرامجي الذي يمكن تعقب اختلالاته، طوال السنوات السابقة، إذ تركّز في تمويل مُتقطع لسلال غذائية لا تقي من الجوع، وتنفيذ برامج تدريب قياداتٍ لا تمتلك مشاريع فعلية في الواقع، لا تستهدف، في النهاية، سوى تصريف التمويل، ومن ثم التهيئة لحفلات التبرّعات في العام المقبل.
ومن ثم تجاهل أي مشاريع مستدامة يستفيد منها اليمنيون، فضلاً عن توجيه المساعدات الإغاثية إلى المقاتلين في جبهات الحرب، بتواطؤ مع أطراف الصراع، مقابل حرمان النطاقات الفقيرة من المساعدات، إلى جانب رصد أغلب ميزانية التمويل لتشغيل هيئات الأمم المتحدة وموظفيها، فإنها تمارس منحى ابتزازيا، بتوقيف مشاريعها الشحيحة التي لا تقدّم حلولا مستدامة. ومثالا على الانتهازية الأُممية، أوقفت الأمم المتحدة ملء خزّانات الماء في مناطق النازحين في عدد من المدن اليمنية أخيرا.
ومن ثم راكمت هذه التشوّهات العميقة في إدارة الملف الإنساني مسؤولية الأمم المتحدة عن مفاقمة الوضع الإنساني، تماماً كأطراف الحرب، لكنها وللمفارقة استطاعت فرض "أسوأ أزمة إنسانية في العالم"، كسردية مثالية لتسويق المأساة اليمنية، بحيث جلب لها تمويلاً ضخماً في مؤتمرات المانحين المرصودة بشأن اليمن، وإن لم ترقَ التبرّعات لتوقعاتها، مقارنة بالسنوات الأولى من الحرب، بيد أن حربا أخرى أكثر أهمية، وجهت التعاطف الدولي إلى أوكرانيا، لا إلى اليمن المنسي، بحيث تحاول الأمم المتحدة إعادة البريق إلى مجاعة لم تعد تحظى بانتباه عالم ملول.
للنجمة الأميركية الشهيرة، مبعوثة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وسفيرة النيات الحسنة، أنجيلينا جولي، فرادتها الإنسانية وقدرتها الخاصة على تجسيد التعاطف البشري، فمن مدن المشرّدين وضحايا الحرب في أفغانستان إلى مخيمات السورين المُفقرين إلى اليمنيين في نكبة الحرب والتجويع، حاولت تصدير معاناة بلدان الحروب ومن ثم جلب انتباه العالم، وذلك في سياق سعي المفوضية إلى إعادة الملف الإنساني في اليمن إلى الواجهة الإعلامية، وأيضاً استباق مؤتمر التعهدات بشأن اليمن الذي سيعقد في 16 من مارس/آذار الحالي، ومن ثم محاولة تحسين تمويل هيئاتها ومشاريعها في اليمن، إلا أن السفيرة كانت في معركة خاسرة، فمع حرصها على تسليط الضوء على "أسوأ أزمة إنسانية" في العالم، وتأكيد حاجة اليمنيين للسلام، بما في ذلك إطلاقها نداءً إنسانيا لدعم مشاريع الأمم المتحدة في اليمن، وتقييد سلطة جماعة الحوثي في صنعاء حركتها، فإن العالم كان بعيداً عن مقاصدها النبيلة، إذ إن حرب مصادر الطاقة المترتبة على الحرب الروسية - الأوكرانية بين روسيا والولايات المتحدة باتت تفرض نفسها على العالم أولوية اقتصادية وسياسية.
فمن تضاعف أسعار البترول والغاز بشكل يومي، إلى أزمة القمح التي تعصف بمجتمعاتٍ عديدة، فضلاً عن تأثر الاقتصاد العالمي بالإجراءات العقابية المتبادلة بين روسيا من جهة وأميركا وأوروبا من جهة أخرى، ومن ثم تركّز الدول المانحة جل جهودها للبحث عن بدائل اقتصادية لتفادي أزمةٍ تطلّ برأسها، ولحماية سلطتها من اضطرابات اجتماعية مُحتملة في حال طالت الحرب الروسية - الأكرانية، الأمر الذي يجعل الاستجابة لمتطلبات الأزمة الإنسانية ليس أولوية للمجتمع الدولي، ومن ثم احتمال تقليص تمويل مشاريع الأمم المتحدة في اليمن، إلا أن الأكثر خطورةً من عالم بات يحبس أنفاسه لمعركته المقبلة، فيما يدفع نحو تغذية الحروب والكراهية، هو ما أفرزته الحرب الروسية - الأوكرانية من تسييس التعاطف الدولي الذي يتجاوز المقارنة في حجم التبرّعات المتدفقة إلى أوكرانيا، مقابل التبرّعات التي رصدت لبلدان الحروب إلى تحيزات التعامل مع القضايا الإنسانية، وتحديداً قضية اللاجئين، والذي جعل أنجيلينا جولي، من مخيمات النازحين في صنعاء، تندّد بمعاملة السلطات الأوروبية التمييزية حيال بعض جنسيات اللاجئين.
نكبات الحروب وضحاياها لا تقبل المساومة، ولا تجزئة التعاطف الإنساني، ومن ثم الانتصار لآلامهم وتخفيف معاناتهم، أياً كانت جغرافية موطنهم ودينهم وعرقهم، ومن ثم إدانة الأطراف المتورّطة في نكبتهم. وفي هذا السياق، يفترض الانحياز للمدنيين في أوكرانيا الذين يتعرضون لفظاعات يومية من قتل وتشريد ونزوح، لكن المجتمع الدولي، وإن أظهر تعاطفه وإدانته الفظاعات في أوكرانيا، وتجاهل مشاركته في قتل المدنيين في سورية واليمن وفلسطين وليبيا، وفي الدول الأفريقية، فإن ذلك، وإن كشف ازدواجيته حيال المعاناة الإنسانية، فإن تعاطي السلطات الأوروبية مع اللاجئين تجسيد لانحدار أخلاقي وإنساني، وهو ما تمظهر بمعاملتها التمييزية تجاه هويات اللاجئين، وكذلك العنصرية في التعاطي معهم، ففي مقابل تسهيل السلطات الأوروبية عبور اللاجئين الأوكرانيين إلى بلدانها، بما في ذلك اتخاذ إجراءات لتطبيع الحياة أمامهم، وهذا إجراء إنساني مهم، فإنها تنصّلت من مسؤوليتها حيال اللاجئين القادمين من بلدان الحروب في منطقة الشرق الأوسط، وعاملتهم بعنصرية، بما في ذلك تعرّضهم لسوء معاملة وتوقيف.
ومن جهة ثانية، تكشف مقارنة تعاطي المجتمع الدولي مع قضية اللاجئين الأوكرانيين، مقابل تعاطيها مع اللاجئين القادمين من منطقة الشرق الأوسط، بمنعهم من الدخول إلى أراضيها، وتعرّضهم للموت جرّاء سوء المعاملة في غيتوهات العزل في الحدود أو في السجون، بما في ذلك غرق الآلاف من اللاجئين السوريين واليمنيين والأفارقة في مياه البحر المتوسط في محاولة للنجاة من حروب بلدانهم، تكشف حالة العماء والتحيزات لسلطات تمييزية تفاضل في المأساة الإنسانية، حتى وإن كان تعاطيها في الحالة الأوكرانية لتجاوز تأنيب ضميرها.
في المقابل، إذا كانت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين هي الجهة الأممية العليا المفترض بها تخفيف معاناتهم، فإن أداءها لا يرقى إلى المسؤولية، فإضافة إلى حرمان بعض بلدان الحروب من حقوق اللاجئين، كاليمنيين، لأسبابٍ سياسيةٍ تتعلق بالتدخل السعودي في اليمن، فإن تجاهلها فظاعات معسكرات الاحتجاز اللاإنسانية في أوروبا وتنكيلها باللاجئين يجعلها شريكا غير مباشر في هذه الجرائم، ومن اللاجئين في الخارج إلى النازحين داخلياً في اليمن، والذين تتجاوز أعدادهم الأربعة ملايين، تتكثف اختلالات أداء المفوضية السامية.
ومع أن قضية النازحين ظلت الورقة الرابحة التي تدرّ على الأمم المتحدة سخاء الممولين، فإن إدارة المفوضية المخيمات، إلى جانب سلطات الحرب اليمنية، تعدّ جريمة لا إنسانية، فمن تقتير ممكنات الحياة اليومية، الطعام والماء وانعدام الكهرباء إلى النظافة، وانتشار الأمراض وسوء التغذية، تحوّلت مجتمعات النازحين إلى مجتمعات معزولة ومفقرة ومنكوبة، فيما يعيش ملايين آخرون في ظروف قاسية، حيث لا يستطيعون سداد إيجارات سكناهم، وإن أعلنت المفوضية، قبل أشهر، إنفاقها أكثر من 20 مليون دولار إيجارات سكن للنازحين، وهو ما يكذّبه الواقع، الواقع الذي لم تره أنجيلينا جولي.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
صنعاء... صفقة السموم الإسرائيلية