مثلما شكّل بيان الأحزاب والقوى السياسية في مأرب، الصادر أخيراً، قنبلة مدويّة في المشهد السياسي اليمني، فقد كان أيضاً بمثابة جرس إنذار أخير أيضاً، واضعاً الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية والوطنية، فهذا البيان الذي تأخر طويلاً جاء ليضع النقاط على الحروف بشأن قضايا كثيرة، في مقدمتها فشل الشرعية وإخفاق التحالف في تحقيق أهدافه، مؤكداً استمرار مأرب في أداء دورها الوطني النضالي والتاريخي في الدفاع عن جمهورية اليمنيين ودولتهم حتى النهاية.
كانت هذه المحافظة من المحافظات اليمنية الأولى التي بادرت مبكّراً في حشد طاقاتها الاجتماعية والقبلية، وتوحيد جهودها القبلية والحزبية في معركةٍ مستمرّة منذ سبع سنوات، قدّمت فيها أروع صفحات النضال والتضحية من أجل اليمن، كل اليمن. وقد تحوّلت مأرب، منذ اللحظة الأولى لسقوط العاصمة صنعاء، حاضنةً لكل الأحرار اليمنيين، المناهضين للانقلاب الطائفي لجماعة الحوثي، والذين لم يجدوا مكاناً يلمّ تشرّدهم ويحرس قضيتهم الوطنية التي آمنوا بها وطناً جمهورياً مدنيا لكل اليمنيين، كما رسمته أحلامهم التي أطلقوها ثورة في 11 من فبراير/ شباط 2011.
يمثل البيان كل القوى السياسية في محافظة مأرب، وهو لسان حالها، ويعبر عن اللحظة السياسية كلها في اليمن، وإنْ تفرّدت مأرب بالتعبير عن الجميع، كما عبرت عن ذلك حرباً وصموداً ودفاعاً عن أحلام اليمنيين ومشروعهم الوطني، قولاً وفعلاً. وضع البيان النقاط على الحروف فيما يتعلق بمسؤولية الشرعية اليمنية عمّا يجري في الواقع، من تراجع كبير على كل المستويات، بفعل فشل الشرعية في أداء مهامها وواجباتها الوطنية على أكمل وجه. قد لا يمكن وصف هذا الحال بأنه فشل بقدر ما قد يتحوّل إلى حالة خيانة وطنية، في ظل استمرار قيادات الشرعية في أدائها الهزيل والمسرحي، وهي المفترض أنها اليوم على الأرض تقود هذه المعركة الوطنية، وليست مهاجرة في المنافي والفنادق.
قد يذهب بعضهم إلى تحميل البيان تفسيراتٍ كثيرة، قد تخرج عن مراد من صاغه، ووضع مطالبه وأهدافه، حيث هناك من يذهب إلى تفسيره بمثابة إدانة للتحالف وفض له وتفكيك له. وهنا، يحاول هذا التفسير دقّ إسفين بين الطرفين، مع أن البيان واضح في استغرابه أداء التحالف وتراجعه، ما أضرّ بسير المعركة. ولم يطالب البيان بغير تصحيح مسار هذا التحالف، وإعادة صياغته في أسرع وقت ممكن، قبل أن تذهب كل التضحيات سدى، في ظل كل هذه المتغيرات التي تعصف بالمشهدين اليمني الداخلي والإقليمي معاً.
وجاء البيان واضحاً، في إدانته فشل الحكومة واستمراره، بل وحتى عمدية هذا الفشل ربما من أطراف في هذه الحكومة المتشاكسة التي يشتغل طرف رئيسي فيها خارج أجندات التحالف والحكومة المفترضة، والمتمثلة بالسعي إلى إسقاط الانقلاب أولاً، فهذا الطرف الممثل ما يسمّى المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم يحشد في أبين لاجتياح شبوة، الخاضعة للحكومة الشرعية، والتي تتعرّض هي الأخرى لتهديد خطير متسارع من جماعة الحوثي أيضاً، في وضع أشبه بالتخادم بين الطرفين، "الانتقالي" والحوثي.
ولكن البيان صبّ جامّ غضبه على الخذلان الحكومي الكبير، والذي لا تفسير له ولا معنى سوى أنه تنصّل الحكومة عن المسؤولية وهروب صارخ عن القيام بهذه المسؤوليات الملقاة على عاتقها، في وقتٍ خرجت فيه الحكومة للحديث عن أنها قدّمت دعماً كثيراً في موقفٍ مضحكٍ للغاية، حيث يعلم الجميع أن مرتبات مأرب وجيشها الوطني لم تأت منذ أكثر من ثمانية أشهر، بحسب وثيقتين تم تسريبهما أخيراً، في عرقلة الحكومة صرف هذه الرواتب لمأرب، المدينة الوحيدة الباقية بيد الشرعية شمالاً، وترفد خزينة الدولة بملايين الدولارات تحول رواتب للحكومة اللاجئة في عواصم الجوار.
كشف البيان حقائق ومواقف كثيرة ليس للحكومة الشرعية فحسب، المكشوفة أصلاً، وإنما أيضاً للأحزاب اليمنية التي كشف عنها بيان أحزاب فروع مأرب الغطاء، وعرّاها تماماً أمام جمهورها، وأتباعها ونفسها، وتاريخها، حيث لم تعلق أيّ منها عليه، ولم تتعاط معه، بل لم تتناوله مواقعها الرسمية، في موقفٍ أشبه بالتنصّل عن بيان فروعها في مأرب، وهروب عن مواجهة الحقيقة.
وضع هذا البيان النقاط على الحروف، كأوضح وأصدق بيان سياسي منذ بداية الحرب، يخاطب الجميع بكل صدق ومسؤولية، من دون أي رتوش ومجاملات لا تغني ولا تسمن من جوع، دأب الناس على سماعها في شكر التحالف والإشادة به، فيما تتراجع الأمور كل يوم، وتنكشف أجنداتٌ كثيرة قد لا تكون أجندات، إذا ما أحسنّا الظن، بقدر ما هو فشل كبير للتحالف والعربية السعودية تحديداً، فحرب إقليمية بهذا التعقيد والتداخلين الإقليمي والدولي، هي مصيرية، وليست عبثيةً كما يدأب بعضهم في وصفها، سيتحدّد عليها مصير (ومستقبل) الأنظمة الخليجية في المنطقة التي تترصدها المليشيات الإيرانية، شمالاً في العراق وجنوباً في اليمن، عدا عن الخلايا الشيعية في الداخل الخليجي أيضاً.
ولا سبيل للانتصار في هذه المعركة سوى في اليمن، الأرض التي يتوفر فيها كل عوامل النصر لليمن واليمنيين والخليجيين، والعرب عموماً. وبيان أحزاب مأرب هو صوت العقل والحكمة في لحظة فارقة، تمرّ بها المنطقة كلها، فإما أن نصغي لصوت الحكمة اليمنية السبئية هذه، وإلا لننتظر طوفان الطائفية يكتسح الجزيرة العربية كلها من أقصاها إلى أقصاها، ولله عاقبة الأمور.
*نقلا عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة