عندما أعلن الرئيس قيس سعيّد الاستيلاء على السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وتجميد البرلمان؛ كان أهمّ شيء بالنسبة لي ردّ فعل الناس.
لم أستغرب الفرحة العارمة التي شهدتها شوارع البلاد لأنني كنت أعرف عمق كره الشارع للطبقة السياسية المتصارعة داخل معرّة البرلمانات.
ولم أستغرب أيضا عمق الحقد المرضي التي نضحت بها وسائل التواصل الاجتماعي ضد حركة النهضة؛ الضحية الأولى للانقلاب. فقد استطاع " التكتيك" السياسي الذي أصبح علامة مسجلة لهذا الحزب أن يضيف لكره الاستئصاليين -للأسباب المعروفة- ضغينة الثوريين، وقد أصبحت النهضة العجلة الخامسة للثورة المضادة والحليف الثابت والشريك الحريص لأحزاب الفساد التي تتالت على الساحة السياسية، "نداء تونس" و" تحيا تونس" و"قلب تونس"، وكان من الأجدر أن تسمى "فساد تونس 1 و2 و3″.
ولتفسير هذه الفرحة؛ قال بعض الديمقراطيين إنها فرحة أنصار النظام القديم، وقال آخرون إنها شماتة في المنظومة الحاكمة ككل لا ترحيبا بالانقلاب.
لقد كانت فرحة وراءها أسباب عديدة ومجموعات متنافرة لم تلتق تلك الليلة إلا على موقف واحد؛ وهو الترحيب بنهاية برلمان مكروه وحكومة مهترئة، ولا يهمّ الآلية ولا المآل.
وربما غفل الديمقراطيون عن أخطر الأسباب أو ربما رفض عقلهم الباطني التوغل عميقا في تفسير الظاهرة.
إن هذه الجماهير التي نزلت للشارع تعبّر عن دعمها للانقلاب بعفويتها وبساطتها وتلقائيتها وحقها المشروع في الاحتجاج على الكابوس الذي تعيشه وحقها في الأمل بغد أفضل، وهي نفس الجماهير المخدوعة التي نزلت في كل المناسبات التاريخية من المحيط إلى الخليج لترحّب بحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين وعمر البشير وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي وعبد الفتاح السيسي ومحمد ولد عبد العزيز وغيرهم.
وعندما تحلّل هذا المشهد المتكرّر على مرّ تاريخنا الحديث تكتشف أن وراءه كل الأسباب الموضوعية من تفقير وظلم وتجهيل واحتقار واستغلال، لكن لو تتفحص عن قرب آمال هذه الجماهير التي سلبتها أقليات فاسدة وعنيفة -على مرّ التاريخ- كرامتَها وبقية حقوقها لاكتشفت تجدد وهْم حضور الحلّ النهائي لكل مشاكلها وهو في ذهن الأغلبية ليس منظومة ومؤسسات وقوانين؛ وإنما شخص طال انتظاره أخيرا جادت به الأقدار الرحيمة اسمه "المستبدّ العادل".
قلّ من ينتبه أن "المستبد العادل" هرطقة لغوية من نوع النار الباردة والثلج الساخن، فكما لا يكون الذكر أنثى لا يمكن للمستبد أن يكون عادلا. أليس الاستئثار بكل السلطة هو الظلم بعينه وهو يَحرم من نصيبهم منها -وما يتبعها من اعتبار وثراء- عددا هائلا من البشر؟ كيف يكون العادل مستبدا وهو بممارسته للاستبداد لا يستطيع إلا أن يكون عنيفا وظالما؟
ومع هذا، لنفهم تغلغل المفهوم في العقل الجماعي وقوة تأثيره إلى اليوم يجب التذكر أنه مقرون في تاريخنا بعمر بن الخطاب؛ مثلنا الأعلى في الحكم الرشيد، والمشكلة أن الجمع بين المستبدّ العادل والفاروق خطأ جسيم.
وإن الخاصية الأساسية للمستبدّ أن قراءته للقانون هي القانون وأحيانا لا حاجة له لأي قانون؛ إذ إرادته -حتى لا نقول أهواءه وشطحاته- هي كل القانون.
لكن عمر بن الخطاب لم يحكم أبدا بأهوائه ولم يضع إرادته فوق إرادة المسلمين وخاصة فوق ما يأمر به النصّ المقدّس.
إن ابن الخطاب أخضع نفسه لحق الآخرين في تقويمه بحدّ السيف إن أخطأ، وأخضع كل تصرفاته لأحكام دستور ذلك العصر، أي القرآن الكريم، ومن ثم لا مجال لوصفه بالمستبد في خلط واضح بين الحزم والعزيمة وبين الاستبداد، وبين قوة الشرعية وشرعية القوة.
من أين جاءنا إذن المفهوم المسموم؟
إن كانت جذوره عند عامة الناس سوء فهم داخل تاريخ مخيّل فإن جذوره عند المثقفين العرب هو الفكر التنويري الغربي للقرن الـ18.
وقد يكون محمد عبده (1848-1905) أول من أشاع مفهوما مترجما من اللغة الفرنسية (Le despote éclairé)، والترجمة الدقيقة له هي "الطاغية المستنير". وهذا المفهوم ندين به لكاتبين فرنسيين هما "فولتير" (Voltaire) (1778-1694) و"دالنبار" (D’Alembert) (1783-1717).
ولا يجب أن ننسى أن أوروبا عاشت لقرون عديدة تحت وطأة استبداد متجسد في الملكية المطلقة. هكذا خرجت -في أوجه المواجهة معها من أدمغة مفكرين إصلاحيين- هذه الخرافة عن الطاغية المستنير وفيها قبول ضمني بأن تحافظ الملكية المطلقة على صلاحياتها، لكن المطلوب منها أن تتفضل على الشعب المسكين بشيء من حسن السيرة وفتات من العدل.
وجاءت الثورات الأوروبية والأميركية متجاوزة هذه الإستراتيجية الجبانة والفاشلة لتفرض إلغاء الاستبداد لا تلطيفه، وذلك بخلق الأنظمة الديمقراطية. وجرّب أن تقول لغربي اليوم إن تجاوز أزمة الديمقراطية في الغرب -وهي أزمة عميقة ومتفاقمة- بالعودة للطاغية المستنير، وسينفجر ضاحكا في وجهك.
لكن أغلب شعوبنا -أمام خيبات الأمل بالديمقراطية في لبنان والعراق وتونس- على أهبة الاستعداد للقبول بالعودة لخرافة المستبدّ العادل، والدليل كثرة المتحسرين على عهود الاستبداد التي كانت تضمن على الأقل الاستقرار ولو في ظل الفساد والاستعباد.
ولا يطول الزمان بكل المخدوعين ليكتشفوا ما أثبتته -على الدوام- تجارب تاريخنا القديم والمعاصر أن "المنقذ" بعد تمكنه يزداد كل يوم استبدادا وينقص عدله المأمول لينتهي طاغية فاسدا مجرما يكلف شعبه ما كلفه الطاغية الذي سبقه والذي سيخلفه، والجماهير دوما على استعداد للتهليل لكل ممثل جديد يبرز من المجهول للعب دور جمع كل الكوميديا وكل التراجيديا.
هل ثمة أمل ليتوقف المسلسل يوما؟
لقد نسي الغرب مفهوم الطاغية المستنير، وانتقل المجتمع إلى دولة القانون والمؤسسات، ولم يكن ذلك بسبب تغيّر نوعية الإنسان الغربي الذي ارتقى ثقافيا للمستوى الذي لم يصله بعد الإنسان العربي. وإن انتقال الغرب من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية -بجانب نضال المجتمعات وثوراتها العديدة- هو الذي مكن الديمقراطية من الظهور والبقاء.
ومعنى هذا أن الديمقراطيات التي نبنيها ما زالت هشة، لأن القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي نبني عليها مؤسساتنا العصرية لا زالت قاعدة نظام الحضارة الزراعية بفهمها المتخلف للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي علاقة الراعي والرعية، وكل المطلوب من الراعي ألا يسرف على غنمه وألا يتمرد القطيع على وليّ الأمر.
ومن حسن الحظّ أن التطور المتسارع لمجتمعاتنا والطفرة التكنولوجية المعاصرة تجعل هذه المجتمعات تنخرط هي الأخرى في طريق يدير الظهر لوهم المستبد العادل حتى وإن كان لا يزال طاغيا عند أفقر قطاعات الشعب وأقلها وعيا وأكثرها عرضة للتجهيل والتضليل.
وهذا يعني أن كل هؤلاء الطامحين للدور الأزلي يسبحون ضدّ تيار تاريخي عاتٍ، وأنهم سيتعبون وسيغرقون قبل أن يتعب التيار ويسير في الاتجاه المعاكس الذي يريدونه للتاريخ.
إن مهمة الأجيال الجديدة التي ذاقت طعم الحرية أن تتصدى بكل قوة لهؤلاء المتخلفين الخطيرين حتى ننتقل نحن العرب أيضا من شعوب رعايا إلى شعوب مواطنين ومن دول مستبدة تملك شعوبا مستعبدة إلى شعوب حرة تملك دول مؤسسات وقانون. ويومها ستقول هذه الأجيال لا، لقد انتهينا من "لعنة" إيليا أبو ماضي:
نرجو الخلاص بغاشم من غاشم لا ينقذ النخاس من نخاس
ولا بدّ لليل أن ينجلي.
*الرئيس التونسي الاسبق
المقال نقلا عن الجزيرة نت
اقراء أيضاً
المتنبي.. ذلك المسكين
سياسة الموت في مصر السيسي