رحل بصمت الزهاد وبساطة الدراويش، وهدوء الحكماء وعظمتهم، رحل في أحد مستشفيات باريس يوم 26 يوليو/ تموز الحالي، الباحث والمفكر والأديب والروائي والمترجم والأمين العام المساعد لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافية والعلوم (اليونسكو)، اليمني أحمد الصياد، عن 69 عاما، والذي قضى ثلث عمره في أروقة اليونسكو وردهاتها خبيرا ومديرا وباحثا، وجنديا مجهولا لكثير من إنجازاتها في العالم 20 عاما. ومحطة اليونسكو في شخصية أحمد الصياد، متعدّد المواهب والقدرات، تتويج لمحطات نضالية سابقة ومتعدّدة، لكنها آخرها وأكثرها عطاء وحضورا، كما يقول صديقه ورفيق دربه علي محمد زيد، في تقديمه كتاب الصياد "اليونسكو رؤية القرن الواحد والعشرين"، فقد كتب "لا يمكن التفكير بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو، وتحولاتها من حيث رسالتها العالية ورؤاها ومبادئها ومثلها، ومن حيث تكييف برامجها وبنيتها الإدارية، من دون ربط ذلك كله باحمد الصياد، أهم دبلوماسي عربي في المنظمة خلال هذه الفترة".
شغل الصياد منصب مدير مساعد لليونسكو (1996 – 2011)، وانتخب قبلها رئيسا للجنة البرامج والعلاقات الخارجية في اليونسكو (1991 – 1993)، ورئيسا للجنة الخاصة أيضا (1989 – 1993)، ورئيسا للجنة دول 70 والصين (2014)، وقبلها رئيسا للمؤتمر العام لليونسكو (1993- 1995). وخلال كل هذه الفترات كان الصياد دينامو اليونسكو المحرّك وراسم قراراتها وسياساتها، وكانت اللغة العربية وثقافاتها وآدابها تحضر كثيرا في مشاريع اليونسكو وبرامجها. ومع هذا، لم يكن أحمد الصياد مجرّد خبير دولي تكنوقراط، قذف به التأهيل العلمي الجيد، لغاتٍ وأكاديميا، إلى قيادة مهام دولية وعالمية عديدة، بل هو قبل هذا كله، مناضل يمنيّ فذ، عركته محطات النضال الوطني ومنحته خلاصة تجاربها، لتصيغ منه شخصية وطنية فذة وصلبة لا تعرف المداهنة والمراوغة في ما يؤمن به ويعتقد بصوابه، فالصياد شخصية وطنية يمنية، خاضت غمرة النضال اليمني على مدى سنوات النضال الأولى، مشاركة في أهم محطاتها وأكثرها تعقيدا، وهي محطة حصار صنعاء في نهاية ستينيات القرن الماضي، مشاركاً فيها قائدا ومنظّراً وجندياً، عدا عن انخراطه الكبير في كل محطات نضال الحركة الوطنية اليمنية.
في روايته "درويش صنعاء" (الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2017)، يكشف الصياد عن شهادته مشاركا في تلك المرحلة، وصراعاتها وتعقيداتها الكبيرة، وكيف تمكّن الإماميون بعد هزيمتهم العسكرية من الانتصار السياسي على التيار الجمهوري، بدفعهم الجمهوريين للاقتتال الدامي في 24 أغسطس/ آب 1968 المشؤوم الذي أجهض نضالات اليمنيين بالسير نحو دولة العدالة والمواطنة المتساوية.
وفي غمرة انشغالاته بمهامه العديدة، لم ينس أحمد الصياد أنه، قبل هذا كله، مناضل يمني له قضيته التي لا يمكن أن يغفلها لحظة، وهو الذي ناضل في سبيلها طويلا. وبالتالي، لا يمكن أن ينشغل عن هذه القضية التي ظلت حاضرة في ضميره ووجدانه وكتاباته، العلمية والأدبية والبحثية، فقد انعكست المسيرة النضالية للصياد على كل اهتماماته، فرأينا ذلك في كتاباته الأكاديمية في رسالته للدكتوراه "السلطة والمعارضة في اليمن"، عدا عن روياته: اليمن وفصول الجحيم، دوريش صنعاء، آخر القرامطة، عدا عن كتاباته النقدية والبحثية، ومنها "اليسار اليمني ظالما أو مظلوما"، و"المرأة اليمنية وتحدّيات العصر"، وكلها كتابات تساهم في الهم الوطني العام الذي لم يستطع أن يتحرّر منه، على الرغم من انشغالاته ومشاغله الكثيرة دوليا. ففي جل إنتاجاته ترك بصمة واضحة بنضالاته وأفكاره اليسارية، ناقدا تجربة اليسار اليمني الذي لم تصدر أي دراسة نقدية تقييمية لتجربته الطويلة والمريرة، عدا ما دوّنه الصياد في كتابه "اليسار اليمني ظالما أو مظلوما"، بما لها وما عليها من إنجازات وإخفاقات، وقف أمامها بمشرط الطبيب صاحب التجربة، وليس مجرّد باحث أكاديمي، محاولا أن يصل إلى خيط الحكاية في هذه التجربة التي اعتراها من الإخفاق أكثر مما حققت من نجاحات، على مدى أربعة عقود من هذه التجربة التي تسنى لها أن تحكم جنوب اليمن نحو 27 عاما.
العودة إلى ما نعانيه، نحن اليمنيين، تجاه أنفسنا ورموزنا، وكما هي عاداتنا الدائمة في التواضع الجم والزهد الكبير في الحضور، والزهد في تقديم أنفسنا ورموزنا وأعلامنا للعالم، ننسى أيضا أن نقول للعالم هذه رموزنا وهذه إبداعاتنا. تطارد اليمني هذه المشكلة حيثما حل وارتحل، تزهيدا وتبخيسا كبيرا، ما يجعلنا دائما نعرض صفحا عن مثل هذه التجارب والخبرات والقدرات التي وإن غيبها الموت تظل إنتاجاتها وابداعاتها المتعدّدة مصادر إلهام ورؤى للعمل العام الوطني والإنساني، كما هو حال الصياد، وما قدمه في أروقة "اليونسكو"، رؤى وخبرات علمية واسعة، لخصها في كتابين عن سيرته ومسيرته في منظمة اليونسكو على مدى عقدين.
وقبل هذا كله، لم يكن الصياد مجرد خبير دولي في اليونسكو، فقد كان مناضلا ومفكرا وكاتبا وروائيا يمنيا عربيا عالميا. رحل بكل هدوء رحيل الزهاد الذين لا يأبه لهم في حضورهم وغيابهم، والأمرّ والأقسى أن وزارة الخارجية اليمنية لم تكلف نفسها، وهو الذي تقلد فيها مناصب عدة، آخرها مندوب اليمن لدى اليونسكو، إصدار بيان نعي يليق بشخصية وطنية وعربية وعالمية. رحمة الله عليه، اليساري الأخير الأنقى ضميرا ووطنية.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة