ارتفعت وتيرة الأعمال القتالية في اليمن بشكل غير مسبوق، إذ بدت أطراف الصراع المحلية والإقليمية في سباق ماراثوني لترتيب وضعها عسكرياً على الأرض قبل تولي الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، منصبه الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني)، استباقاً لأي حلول سياسية قد تفرضها الإدارة الأميركية المقبلة.
وفيما لا تختلف مقاربة الإدارات الأميركية المتعاقبة للحرب في اليمن، من حيث تجاهلها جذر المشكلة اليمنية، مقابل استرضائها حلفاءها الإقليميين على حساب مصالح اليمنيين، فإن تولي إدارة أميركية ديمقراطية قد يؤثر على بعض الملفات الإقليمية التي تتقاطع مع الحرب في اليمن، إلا أنها لن تؤدّي إلى وقف الحرب، فعلى الرغم من أن قرار وقف الحرب هو في المحصلة دولي، يرتبط بالتوازنات الإقليمية ومصالح القوى الدولية في المنطقة، بحيث يتجاوز إرادة الدول المتدخلة في اليمن، إلى القوى الدولية الفاعلة في الملف اليمني، والمستفيدة من استمرار الحرب، فإن القوى المتدخلة ووكلاءها المحليين يسعون، من خلال التصعيد العسكري الذي تشهده معظم جبهات الحرب، بما في ذلك مناطق التماس بين القوات المتنافسة، إلى تحسين شروطهم السياسية، وبالتالي موقعهم التفاوضي قبل دخول الرئيس بايدن مكتبه في البيت الأبيض.
على امتداد أربع سنوات من ولايته، منحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب السعودية غطاءً سياسياً غير مشروط في إدارة عملياتها العسكرية في اليمن، متجاهلةً أي تبعات إنسانية على اليمنيين، وذلك من خلال تقييد تدخلها العسكري في اليمن، بتقليم سلطة جماعة الحوثي، وكيل إيران المحلي، الأمر الذي مكّن السعودية من الإفلات من العقاب جرّاء استمرار قتل المدنيين اليمنيين، بحيث ظل التصعيد مع إيران عاملا رئيسا في التغذية الأميركية للحرب في اليمن، بما في ذلك استغلالها عقد صفقات أسلحة مع السعودية.
ومع تباين موقف الإدارة الأميركية المقبلة من الصراع السعودي - الإيراني في المنطقة، وذلك بحسب التصريحات المنسوبة للرئيس المنتخب جو بايدن، فإن الفارق بين الإدراتين يكمن في كيفية إدارة الصراع، إذ قد تدفع الإدارة المقبلة لخفض الصراع مع إيران على الصعيد السياسي، بما في ذلك إحياء الاتفاق النووي، الأمر الذي قد يؤثر على سياقات الحرب في اليمن، لكنه لن يؤدّي إلى وقفها، وعزل امتداداتها الإقليمية، إذ إن دخول إيران في الساحة اليمنية، أخيرا، وتنمية علاقتها بوكيلها المحلي، شكلا دافعاً حيويا لاستمرار الحرب في المستقبل، بما في ذلك تصاعد الهجمات الصاروخية لجماعة الحوثي ضد منشآت سعودية حيوية، الأمر الذي يجعل السعودية في موقع الدفاع عن النفس حيال تجاوزات وكيل إيران في اليمن.
ومن جهةٍ أخرى، يفرض استمرار تعاطي القوى الدولية، بما في ذلك الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية والديمقراطية منها على السواء، مع اليمن، بوصف هذا البلد سوق سلاح، أثره في استمرار تعويم الحرب في اليمن. وبالتالي، لن تخرج الإدارة الأميركية المقبلة عن نهج سلفها في عقد صفقات الأسلحة مع السعودية، خصوصا في ظل منافسة بريطانيا والدول الأوروبية، وحرص القوى الدولية على تعويض خسائرها الاقتصادية جرّاء تفشي فيروس كورونا، ما لم تجرّ الإدارة الأميركية السعودية إلى بؤرة صراع جديد في المنطقة، بحيث يفقد اليمن أهميته الاستراتيجية لأميركا كسوق سلاح.
إلا أن السعودية التي توازن خسارتها في اليمن، خسرت أكثر بفقدان حليفها ترامب، وتولي إدارة أميركية ديمقراطية في هذا الظرف، حتى في حال نجحت إدارة ترامب الحالية في تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية محظورة، إذ إن فشل السعودية في حسم الحرب في اليمن، وكذلك تصعيدها مليشيات محلية على حساب السلطة الشرعية، فضلا عن آثار حربها على اليمنيين، يجعلها في موقفٍ ضعيف، بحيث قد ترضخ لأي مقاربة أميركية جديدة في ما يخص الأزمة اليمنية، بما في ذلك تحريكها الملف الإنساني في اليمن.
في كل الحالات، يبدو أن السعودية التي راكمت فشلها في اليمن، ست سنوات، تسعى إلى ترتيب وضعها قبل وصول الإدارة الأميركية الجديدة، إذ تتركز قائمة أولوياتها، في هذه المرحلة، على تأمين مناطقها الحدودية مع اليمن، من ضغط مقاتلي جماعة الحوثي أو على الأقل وقف تمركز مقاتلي الجماعة في مناطق يمنية متاخمة لحدودها، والذي قد يمنح الجماعة موقعاً تفاوضياً مريحاً، حيث صَعّدت غاراتها على المناطق الحدودية بشكل مكثف، بما في ذلك استئناف غاراتها على مدينتي صنعاء والحديدة، إذ تهدف السعودية إلى دحر مقاتلي جماعة الحوثي من الحدود، ما يمكّنها من إقامة منطقة عازلة، بحسب مضامين اتفاق "ظهران الجنوب"، الذي كان حصيلة مفاوضاتٍ غير مباشرة بين قيادات سعودية وقيادات في جماعة الحوثي إبّان إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، مقابل اعترافها بسلطة الجماعة على المناطق التي تسيطر عليها.
ومن جهة ثانية، تسعى السعودية إلى إعاقة مقاتلي جماعة الحوثي عن الاستحواذ على مناطق حيوية جديدة في جبهات مدينة مأرب، معقل حليفها السلطة الشرعية اليمنية، بما لا يؤدّي إلى تغيير الخريطة العسكرية، مع استمرار سياستها العامة في استنزاف حلفائها وخصومها. ومن جهة ثالثة، تدفع الدبلوماسية السعودية، وبكل قوتها، إلى تنفيذ آلية تسريع اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، إذ إن مرور أكثر من عام على توقيع الاتفاق، من دون تنفيذه، يشكل تتويجا للفشل السعودي في اليمن. ولذلك تحاول دفع الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى تشكيل حكومة المناصفة، وتأجيل تنفيذ الشق العسكري، مقابل ضمان انتشار قواتها في مناطق التماسّ، أي باختصار ترحيل الصراع البيني في معسكر حلفائها إلى المستقبل، في مقابل فرض المجلس الانتقالي الجنوبي قوة سياسية من خلال مشاركته في الحكومة المقبلة، وبالتالي في المفاوضات النهائية.
مع أي متغيراتٍ قد يفرضها وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى البيت الأبيض على الشأن اليمني، بما في ذلك مواكبة حليفها السعودي لهذه المتغيرات، فإن سلطة الرئيس اليمني أكثر المتضرّرين من ذلك، إذ يمثل الطرف الأضعف في المعادلة السياسية والعسكرية في اليمن، وإن كانت السعودية سوّقت تدخلها العسكري في اليمن من أجل إعادته إلى السلطة، إذ انتزعت السعودية قراره السياسي لصالحها، بحيث فشل في فرض سلطته على القوى المحلية المتحالفة معه، بما في ذلك على السعودية، حليفه الإقليمي الرئيس، ومن ثم، قد تطيح أي تسويةٍ سياسيةٍ تفرضها الإدارة الأميركية المقبلة بالرئيس هادي، خصوصا مع إدراكه اتفاق الحلفاء والخصوم على إزاحته من السلطة، إضافة إلى التحدّيات الحالية التي تهدّد سلطته، فمن جهة، يستمر حزب التجمع اليمني للإصلاح، أكبر الأحزاب المنضوية في السلطة الشرعية، بالتمدّد على حساب سلطة الرئيس هادي في المناطق المحرّرة.
ومن جهة ثانية، تُستنزف القيادات العسكرية والقوات الموالية له في جبهة أبين في معارك يومية ضد قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، من دون أي نتيجة سياسية، في وقتٍ يستمر مقاتلو جماعة الحوثي في تهديد مدينة مأرب، وذلك بعد استيلائهم على معسكر ماس الاستراتيجي. ومن جهة ثالثة، يواجه الرئيس اليمني ضغطاً سياسياً من حليفه السعودي لقبول إعلان حكومة المناصفة، وتأجيل الشق العسكري، بما في ذلك إبعاد الوزراء المقرّبين منه في التشكيل الحكومي المقبل. ومع امتناع الرئيس هادي، حتى كتابة هذه السطور، عن الرضوخ للإملاءات السعودية، بحيث بات يناور في المربع الأخير للدفاع عمّا تبقى من سلطته الشكلية، إلا أنه قد يقبل، في النهاية، هذه الإملاءات.
قد لا يشكل تولي إدارة أميركية ديمقراطية جديدة خلفا لإدارة ترامب فرقا بالنسبة لجماعة الحوثي، لكنه يصبّ في صالح حليفها الإيراني، إذ سيمكّنه خفض التصعيد الأميركي معه من التحرّك بحرية في اليمن، وغيرها من بلدان الحروب في المنطقة، فيما تسعى جماعة الحوثي إلى استباق أي مفاوضات سياسية قد تدفع بها الإدارة الأميركية المقبلة، من خلال تكريس سلطتها في المناطق الخاضعة لها، والأهم تغيير المعادلة العسكرية في مدينة مأرب، مركز ثقل السلطة الشرعية، إذ تواصل حشد مقاتليها وقواتها العسكرية في جبهات مأرب، بحيث كثفت هجماتها على المدينة من محاور عديدة، على الرغم من مقتل مئاتٍ من قياداتها الميدانية في جبهات مأرب.
ويبدو أن جماعة الحوثي تسعى إلى إحراز تقدّم عسكري في مأرب، ما يمكّنها من التفاوض حولها مستقبلاً، بما يضمن لها المحاصصة في ثروات مأرب النفطية. ومن جهة أخرى، تكثيف هجماتها الصاروخية ضد السعودية، لتحسين شروطها السياسية، وأيضاً لتخفيف الضغط على حليفها الإقليمي في ملفاتٍ سياسيةٍ أخرى.
في كل منعطفٍ تفرضه المتغيرات الدولية والإقليمية، تقاتل أطراف الصراع في اليمن من أجل تحسين شروطها، على حساب قتل اليمنيين وإنهاكهم، ففي انتظار وصول الرئيس الأميركي، بايدن، دفعت الأطراف المحلية والإقليمية الحرب إلى مستوياتٍ خطيرة، قتلت أكثر من خمسين مدنياً في الأسابيع الماضية فقط، بالإضافة إلى نزوح آلاف المدنيين. وبالنسبة لليمنيين المنهكين بالحرب والجوع، لا فرق بين أوباما وترامب، ومن ثم جو بايدن، إذ لا شيء تغير على امتداد سنوات نكبتهم، عدا وعود بائسة موسمية يطلقها "شرطي العالم" لإنهاء مأساتهم.
*نقلا عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
صنعاء... صفقة السموم الإسرائيلية