حرية المعتقد واحترامه ليست مزحة.
حق الحياة ليس لعبة.
حرية التعبير ليست مطلقة العنان.
بتفصيل أكبر وبمتابعة لما يجري في فرنسا هذه الأيام يمكن قول الآتي:
لم يكن حكيما ولا مناسبا ما أطلقه الرئيس ماكرون من اتهامات ضد الإسلام، وليس بعض المسلمين، فقد كان فيه من الجهل المتعمد وسوء التقدير والتعميم الظالم الشيء الكثير. لقد نصّب نفسه مُقيّما لدين يتبعه زهاء المليار ونصف من سكان هذا الكوكب بكثير من الخفة، وحتى الاستخفاف، دون مراعاة لكرامات هؤلاء. عندما يقول ما قاله ماكرون باحث في الأديان في ندوة علمية شيء، وعندما يقوله رئيس دولة كبرى شيء آخر تماما، خاصة عندما يلحقه بإجراءات وقرارات، التعسف فيها والتضليل ليس بقليل.
القتلُ الشنيع للمعلم الفرنسي الذي عرض الرسوم المسيئة للرسول الكريم على تلامذته عمل إرهابي وإجرامي يجب إدانته والتنديد به بلا تردد أو تحفظ. كان بالامكان التعامل مع ما قام به بالدفع بالتي هي أحسن في كنف القانون والسلمية عبر عريضة أو وقفة احتجاجية أو حتى تشكيل وفد من الأولياء للقاء به والنقاش معه، أما أن «يتطوّع» أحدهم ليزهق روحه في لحظة غضب وهيجان فذاك مما لا يجوز ولا يُـقبل، إنسانيا ودينيا، ولا يمكن الدفاع عنه أو تبريره، فما بالك بتأييده أو مباركته فتلك جريمة تضاف إلى الجريمة الأولى.
حرية التعبير من حريات الإنسان الأساسية، ومن أجلها ضحى الآلاف لكنها وككل الحريات ليست مطلقة بلا ضوابط. وحتى وإن لم تكن مثل هذه الضوابط مقترنة نصا بهذه الحرية في المواثيق الدولية أو النصوص الدستورية، فإن هناك من الموانع القانونية ما تحد منها في سياقات مختلفة. لا يمكن التحجج مثلا بحرية التعبير عندما تدعو إلى العنف أو الإرهاب أو نبذ عرق من الأعراق أو دين من الأديان أو الحث على الكراهية أو الحط من قيمة أي انتماء ديني أو مذهبي أو وطني أو مناطقي أو استفزاز أصاحبه أو إهانتهم أو غير ذلك. كل ذلك لا يسمى حرية تعبير، ولا يجب التعسف بإدراجه على أنه كذلك، وهنا بالتحديد توضع قضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ما زاد الأمر سوءا أن الاصطفاف الحاد الذي تعيشه المنطقة العربية في السنوات الماضية جعلت البعض يُخضع كل ما سبق في سياق هذا الاصطفاف تحديدا. لقد جرى وضع استهجان ما قامت به فرنسا في سياق الموالاة لتركيا والإخوان المسلمين وتيارات التطرف الديني، في حين جرى وُضع تفهم ما قاله وأقدم عليه ماكرون في سياق التنوير ومناهضة الإسلام السياسي والتطرف. مثل هذا التصنيف لا يمكن اعتباره سوى تسطيح وتتفيه لقضايا كبرى، فضلا عن أنه لا يخرج في النهاية عن وضع قضايا خطيرة في سياق ظرفي من المناكفة السياسية.
ومثلما أبانت هذه الأزمة عن أصوات فرنسية فكرية وسياسية شجاعة عبّرت عن تحفظها على هذا النهج الذي أدخل فيه ماكرون البلاد فإنها أبانت أيضا في المقابل عن أصوات عربية دفعها كرهها للإسلاميين، وهذا حقها المشروع، إلى الوقوف مع من يتجنى على الإسلام كدين وحضارة وهذا خلط قاتل.
في فرنسا وجدنا شخصيات مثل الصحافي والسياسي الفرنسي جان ليك ميلنشون كانت له من الشجاعة والجرأة أن يدعو ماكرون إلى التوقف عن «اللعب بالنار» و«الكف عن الاشارة بإصبع الاتهام إلى كل المسلمين في بلاده» حرصا على العيش المشترك وتقبل الآخر وإعلاء قيام الجمهورية الحقيقية لتجنب تعريض المسلمين إلى ما سبق ما تعرض له اليهود والمسيحيون في أوروبا من اضطهاد وقهر. في المقابل، خرجت أصوات عربية، بالتحديد من السعودية والإمارات ومصر، تؤيد ماكرون وتثني على كل ما فعله، معتبرة أن كل انتقاد له هو خدمة لأردوغان وقطر والإخوان المسلمين في مفارقة عجيبة ليس لها من تفسير سوى أنك إن تمسكت بنفس النظارات في النظر إلى كل شيء، مهما اختلفت الزوايا، دون أي تعديل أو مراجعة، فقد تصاب في النهاية بمزيد من ضعف النظر وحتى الحول.
لقد بدّد ماكرون في أيام قليلة الكثير مما بناه أسلافه من عهد الجنرال ديغول إلى الرئيس جاك شيراك من ود وتقدير لفرنسا ومواقفها في عديد الملفات، وهو إذ يفعل ذلك لحسابات انتخابية انتهازية إنما يعبث بمكانة بلاده بأكملها خاصة مع هذه الحملة لمقاطعة البضائع الفرنسية والتي تظل، رغم كل شيء، شكلا من أشكال التعبير الشعبي السلمي. حتى هذه، لم تستسغها الدوائر الرسمية الفرنسية واعتبرتها نابعة من «أقلية متطرفة» وتناغمت معها نفس الأصوات الخليجية إياها.
ومع أن ماكرون قال في تغريدته باللغة العربية، حتى يخاطب القوم بلغتهم، أنه لن يتراجع أبدا إلا أن من مصلحته أن يسعى أن ينزل تدريجيا من الشجرة العالية التي تسلقها لأن لا مصلحة لفرنسا، ولا للعرب والمسلمين، في بقاء مثل هذا الجو المشحون التي لا أحد يدري كيف يمكن أن يتطور وهل يمكن أن ينزلق أكثر.
*نقلا عن القدس العربي
اقراء أيضاً
كتاب فرنسي عن السابع من أكتوبر
وائل الدحدوح… هذه الأيقونة
«حل الدولتين».. مرة أخرى؟!