بعد ما يقارب عامين من المراوحة في جبهات القتال، تشهد الحرب في اليمن تطوراً مفصلياً قد يؤدي، في حال حُسمت تلك المعارك بشكل نهائي، إلى تغيير مسار الحرب في اليمن؛ إذ تعيش مناطق الساحل الغربي حرباً حاسمة في سياقاتها، تتجاوز "إعلان" التصعيد العسكري الذي طالما اتبعته أطراف الصراع اليمنية وحلفاؤهم الإقليميون لاستنزاف خصومهم، حيث أسفرت المعارك، حتى الآن، عن تقدّم القوات الشرعية مدعومةً بغطاء جوي من طيران التحالف في الساحل الغربي، وسيطرتهم على منطقة ذباب المطلة على مضيق باب المندب، كما استطاعت قوات الشرعية السيطرة على ميناء المخا وفرض حصار على المدينة، تمهيدا لتحريرها من قبضة المليشيات.
لا يمكن تفسير دوافع تحريك قيادة التحالف جبهة الساحل الغربي في هذا التوقيت، وتحوّل أولوية سير المعارك بالنسبة لها من مناطق الداخل اليمني إلى الساحل الغربي، إلا بأن هذه التطورات جزء من المناخ الإقليمي والدولي الذي ولّده تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، فلم تعد جبهة الساحل الغربي ثانوية مؤجلة بالنسبة لقيادة التحالف العربي. على الرغم من استهداف طيران التحالف مناطق الساحل الغربي طوال الحرب، إلا أن تلك العمليات كانت تهدف إلى تخفيف الضغط على جبهات أخرى، أكثر من أنها من أجل الحسم العسكري.
يبدو أن السياسة اليمينية للرئيس الأميركي الجديد حيال قضايا كثيرة، بما فيها أزمات وحروب منطقة الشرق الأوسط، ألقت بظلالها بشكل مباشر على الحرب في اليمن، إذ حفّزت هذه الظروف أطراف الصراع اليمنية وحلفاءهم للمضي نحو خيار الحسم العسكري من دون تردّد. كما كان للتصعيد السياسي والإعلامي لإدارة ترامب تجاه إيران، الحليف الإقليمي لجماعة الحوثي، أثره على مسار الحرب في اليمن، حيث اعتبرت السعودية، قائدة دول التحالف في اليمن، العداء الأميركي لإيران مؤشراً إيجابياً على دعم خياراتها في اليمن ضد خصومها الحوثيين، متخففة من محاذير كانت تعترضها في أثناء إدارة أوباما. كما كان للهجمات المتكرّرة لمليشيات الحوثي وصالح على بوارج وسفن قوى دولية وإقليمية دور فاعل في إطلاق قيادة التحالف العربي عملياتها في الساحل الغربي، ومنحها ضوءاً أخضر إقليمياً ودولياً لتأمين خطوط الملاحة الدولية.
تمثل عمليات التحالف العربي في الساحل الغربي اليمني، أو ما اصطُلح على تسميته "الرمح الذهبي"، مرحلة جديدة في الحرب، تهدف إلى تطويق مليشيات الحوثي وعلي عبدالله صالح في المناطق الجبلية، وعزلها عن العالم، بعد أن فشل التحالف العربي والقوات الموالية للرئيس عبدربه منصور هادي، في تحرير المناطق الداخلية والتوجه رأسا إلى العاصمة. يرى محللون كثيرون أن القرار الإماراتي هو المحرّك لعمليات الساحل الغربي، مدللين على ذلك بتبني الإعلام الإماراتي معارك المخا، إضافة إلى مشاركة المقاومة الجنوبية وقيادات عسكرية جنوبية، كان لها ثقلها في صيف حرب 1994 في هذه المعارك، وهو ما لا يمكن حدوثه إلا في ظل موافقة ودعم سياسي إماراتي. فهيثم قاسم، وزير الدفاع الأسبق في دولة الوحدة الذي سبق له خوض حرب ضد نظام صالح، هو من يقود معركة المخا.
تؤشر تطورات معارك الساحل الغربي على قلبها موازين القوى على الأرض، وتثبيت واقع عسكري وسياسي يصب في مصلحة السلطة الشرعية وحلفائها الإقليميين، خصوصاً في حال نجحت القوات الشرعية في تثبيت سيطرتها على منطقة ذباب وميناء المخا، واستكمال استعادة مدينة المخا، كون استعادة منطقة ذباب وميناء المخا تشكل نصراً معنوياً للسلطة الشرعية، بعد أن توقفت معارك التحرير عند حدود مدينة عدن منذ أكثر من عام. كما أن ذلك يمنحها قاعدة فعلية لاستعادة مناطق أخرى في الساحل الغربي. فمن الناحية العسكرية، يمنحها السيطرة على ميناء المخا عامل قوةٍ لاستعادة مدينة الحديدة من مليشيات الحوثي وصالح. إن تزامن معارك استعادة المخا مع تصاعد حدة المعارك في شمال الساحل الغربي، وتحديداً في منطقة ميدي، يعني تمتّع السلطة الشرعية وحلفائها بالقدرة على خنق مليشيات الحوثي وصالح، عبر عزلها من أي منفذ مائي، وحشرها في المناطق الداخلية، وبالتالي، حرمانها من رئة اقتصادية رئيسية اعتمدت عليها في تمويل حربها طوال الفترة السابقة.
حتى مع عدم الحسم عسكرياً بشكل نهائي، يمكن القول إن مليشيات الحوثي وصالح مُنيت بهزيمة كبيرة في معارك الساحل، ما ضيّق الخناق على خياراتها العسكرية على الأرض. فقد مثّلت عموم المناطق الساحلية، بما فيها مدينة المخا، مجالاً حيوياً لها لإطلاق عملياتها الهجومية صوب مناطق المواجهات المشتعلة، ومن ثم فإن انتقال المعارك إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها يشلّ قدرتها على المناورة، ويجعلها في موقف دفاعي. وعلاوة على ما يمثله فقدان تحالف الحوثي وصالح ميناء المخا من خسارة اقتصادية فادحة، فإن تقدم الشرعية في محيط مدينة المخا يشكل تهديداً حقيقياً ومباشراً على مدينة الحديدة، المدينة الاستراتيجية بالنسبة لمليشيات الحوثي وصالح.
صاحَب الانكسارات المتتالية لجبهة الحوثيين وصالح في معارك الساحل، ارتباكٌ عسكري ستكون له نتائج كارثية، خصوصاً على المدنيين. فردّاً على استهداف مليشيات الحوثي وصالح فرقاطة بحرية تابعة للتحالف العربي، أعلن المتحدث باسم قيادة قوات التحالف، العميد الركن أحمد عسيري، ميناء الحديدة منطقة عسكرية مستهدفة، في حين اعتبرت الإدارة الأميركية أن الهجوم على الفرقاطة كان يستهدف بوارجها المرابطة في البحر الأحمر، ولذلك حرّكت مدمّرة للرد على أي هجوم محتمل آخر. من جهة أخرى، لتبرير خساراتها أمام أنصارها، عمدت الآلة الإعلامية لمليشيات الحوثي وصالح إلى إبراز الحضور الجنوبي في معارك المخا وقيادة وزير الدفاع الأسبق، هيثم قاسم، هذه المعارك، باعتباره مؤشراً واضحاً على كونها معركةً تهدف إلى فصل شمال اليمن عن جنوبه.
مع تصاعد حدة الحرب في بعض مناطق الساحل اليمني على نحو غير مسبوق، يرتفع معدل المتضرّرين من الحرب إلى أكثر من نصف مليون يمني يعيشون في ظل أوضاع إنسانية مأساوية، محاصرين في خط النار، بسبب العمليات العسكرية لطرفي الحرب، ورفض جماعة الحوثي السماح لمدنيين كثيرين بالنزوح من تلك المناطق، ورفض تحديد أماكن عازلة، وهو ما يعني تعريض حياة عدد أكبر من المدنيين للخطر.
عدا عن تحذيرات الأمم المتحدة من وقوع مآسٍ إنسانية، بسبب المعارك الدائرة في الساحل الغربي، فإن مصير المدنيين اليمنيين الواقعين بين طرفي كماشة هو آخر ما يرد في أذهان أطراف الصراع اليمنية وحلفائهم، فلا تزال "أوهام" الحسم العسكري والسلطة هي محرّك الاقتتال العبثي لأطراف الحرب اليمنية، فلا أهمية لحياة اليمنيين، إن لم يكونوا مقاتلين في صفها.
كل المعارك متشابهة بالنسبة لضحايا الحرب في اليمن، فجميعها انتصاراتٌ مؤقتة لهذا الطرف أو ذاك، وجميعها هزائم دائمة لإنسانيتهم وأحلامهم، فيما لا تهتم أطراف الصراع سوى بالانتصار والسلطة، حتى لو كان انتصاراً من أجل لا شيء ولا أحد، أو سلطة على مقبرة بحجم وطن.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
صنعاء... صفقة السموم الإسرائيلية