خلال الأسابيع الماضية عادت الحرب اليمنية، مرة أخرى، إلى الواجهة الدولية، لكنها حضرت بوصفها مأزقاً سعودياً أكثر من كونها مأساة يمنية. راكم بن سلمان متتالية معقدة من الأخطاء على المسرح الدولي، كان آخرها الأزمة الكندية التي أربكت أوركسترا "المخلص" المعزوفة في واشنطون ولندن. عملية خاشقجي، وهي أحدث الخطايا، سلطت الضوء على الطبيعة السلوكية للملك الجديد، وأعادت إلى الضوء فعله كله، وطرحت الأسئلة حول الشكل الذي سيبدو عليه الشرق الأوسط مستقبلاً تحت ظل ذلك الرجل. الحلفاء الدوليون تدخلوا لمعالجة ملفات الرجل، كما فعلت فرنسا في الملف اللبناني، وتفعل أميركا في الملف اليمني. وفي بوينس آيريس وبخه ماكرون قائلاً: أنت لم تستمع لنصحي، فقال الأمير: سأستمع إليك جيداً.
في السياق نفسه، المأزق السعودي، دُفعت الحكومة إلى مناقشات غامضة تتعلق بالآثار الجانبية للحرب لا بالحرب نفسها. الآثار الجانبية للحرب هي معضلة سعودية، غير أن الحرب، بما هي حرب، هي مسألة يمنية. في السويد حاول المجتمع الدولي معالجة الجزء الخاص بالسعودية من هذه الحرب. إدارة ترامب كانت أكثر المتحمسين لهذه النسخة من المفاوضات، النسخة التي تعنى بالأسرى لا بالجيوش، وبالبضائع لا الألغام، وبالسفن لا بالمشروعية السياسية. استمعنا إلى حديث وزير الدفاع الأميركي قبل شهر، وبالأمس إلى وزير خارجية بلده بومبيو: تحدث الرجلان عن وضع حد للمأساة في اليمن، أي للآثار الجانبية الناتجة عن الحرب. وهو ما سيعني في نهاية المطاف: تنظيف السمعة السعودية في المسرح الدولي. فالسعودية حليف استراتيجي لا يمكن التخلي عنه، يقول ترامب، وأيضاً لا ينبغي تركه فريسة لخطاياه.
لاحظنا أن حوار السويد أفضى إلى "توقيع أوراق" خلال أربعة أيام من المشاورات. نحن بصدد أسرع عملية تفاوض ناجزة بين "متحاربين" في التاريخ. سلقت المفاوضات في الزيت الحار، زيت الأمير، وبقيت الحرب قائمة. حتى إن أي دولة من تلك التي رعت مفاوضات السويد لم تعترض على انفجار الحرب في أطراف صنعاء بصورة غير مسبوقة. فالحرب اليمنية ليست هي المسألة المركزية في العناية الدولية المفاجئة بل ورطة الأمير الصغير.
الحوثيون، وهم كتيبة إيرانية عابرة للحدود، قبلوا هذا النوع من المبادلات، أي تبادل تبييض السمعة بين السيد والأمير. ليغسل الأمير سمعته الدولية شريطة أن يحضروا هم إلى المشهد الدولي بوصفهم طرفاً سياسياً يمنياً ساقته الأقدار إلى حرب لا يريدها. فهم ليسو جماعة إرهابية ولا مجموعة جهادية، كما إنهم لم يحتلوا المدن إلا لكي يعيدوا إليها الاستقرار. وهم في نهاية المطاف على أهبة الاستعداد للخروج من الحرب إذا ما وجدوا شريكاً في الخروج. قال أحد رجال وفد الحكومة المفاوض قبل يومين: سنتبادل الأسرى، سيحصلون على مزيد من المقاتلين وسنحصل على مزيد من اللاجئين.
الصورة الختامية لاتفاق السويد أذنت بمزيد من الحرب شريطة أن تبقى الموانئ مفتوحة. يتقاتل اليمنيون، نحن نعرف هذا، لكن موانئهم لا بد أن تبقى مفتوحة: على السعودية أن تضع حلاً للجزء الآخر. هذه المشاهدة هي ما جعلت الأمم المتحدة نفسها تحتفل بموافقة الميليشيات على الانسحاب من حي بحري اسمه "رأس عيسى". آلات إعلامية كثيرة تعمل على نفخ رأس عيسى ليصبح هو كلمة السر في المعضلة اليمنية، بحيث إنك إن نظرت إلى اليمن مستقبلاً فستراها إلى الخلف من رأس عيسى.
السعودية غير مستعدة للخروج من هذه الحرب، إيران لن تخرج منها فهي استثمار غير مكلّف، الحكومة لا تملك ترف مغادرتها، الحوثيون يقولون إنهم ينفذون إرادة إلهية وعليه فهم ليسوا جزءاً من أي حساب دنيوي انهزامي. إذن، لنتحدث عن الممرات والمعابر، ولنترك هذه الحرب اللعينة خلف ظهورنا: عن المطارات الدولية التي ستصبح فرزات داخلية، وعن "موانئ الشمال". ستقوم السعودية بتعزيز مشروع السلام الجديد على هذا النحو: قوافل طبية لعلاج الكوليرا، وآلات عسكرية إلى مأرب. وسيوافق الحوثيون على النسخة السويدية من السلام: تأهيل الأسرى ودفعهم إلى الجبهات، وتوريد جزء من رسوم "الميناء" إلى جلال هادي، على أن تصبح المسألة الاقتصادية شأن غيرهم. بارك الإماراتيون اتفاق السويد لأنه تجنب، كلياً، الإشارة إلى ورطتهم في الجنوب.
أمر غاية في الأهمية أن تعود المأساة اليمنية إلى بهو العناية الدولية بصرف النظر عن الباب الذي دخلت منه. لنتفق مع المنطق الحكومي: دعونا، على الأقل، نطلق سراح المختطفين ونمنح آلاف الأسر فرحاً هشاً، دعونا نعمل على وصول المزيد من الخبز والسمن والدواء، لنحاول دفع رواتب الموظفين، أو جزء منها هذه أشياء ليست قليلة الشأن، ولنكمل الحرب في مكان آخر، على أن يكون بعيداً كل البعد عن رأس عيسى وليساعدنا الله على ذلك.
*من صفحة الكاتب على فسبوك
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها