وإذ تساءل الأعشى عن مدى قدرته على الرحيل، فلأنه مفردة غائرة المعاني والدلالات في الوجدان العربي قديماً وحديثاً، وهي ذات تداعيات نفسية – عاطفية، وفكرية- فلسفية، ومعيشية- سياسية صاغت شخصية العربي بغير قليل من القلق وعدم الاستقرار، أثناء رحيله الدائم إلى الماء والحلم، حيث تجسد الرحيل في تشكل حضارات بلاد الرافدين والشام المتكونة مع تراكم قرون من رحيل العرب إلى ضفاف الأنهار، أو رحيلهم من «بيت الشَّعْر» إلى «بيت المَدَر»، أو من الرمل إلى الماء، أو من طور «البداوة الأعرابية» إلى طور «الحضارة العربية»، التي انطلقت لاحقاً في مراكز حضارة العصر الوسيط في بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وغيرها.
لكن الرحيل، رغم تجسيده لصيرورات الإنسان الحضارية الكبرى، موجع على المستوى العاطفي والوجداني، حيث حفلت أدبيات العرب بالكثير مما قيل في الرحيل وآثاره المدمرة على الراحلين إلى المصائر الغائمة. وتحدثنا السِّيَر أن نبي الإسلام عندما قرر الرحيل عن مكة إلى المدينة، التفت التفاتة أخيرة إلى بلدته، وقال «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
وسجل ديوان الشعر العربي آلاف القصائد عن الرحيل، والوقوف على الأطلال، ووصف الرحلة، والحنين إلى الأوطان والخلان، حين كان وطن الإنسان العربي في الصحراء مصنوعاً من خيوط مفتولة من شعر ماشيته، يحملها معه لتتبع مساقط الماء في الفيافي المهلكة، لكنه وهو ينقل «وطنه» معه إلى ماء جديد يظل يهفو إلى «الديار»، وتحوم على مخيلته الذكريات، ويحلم بالعودة إلى أن يموت.
وبحكم طبيعة بوادي بلاد العرب، فإنها كانت تفرض على سكانها من البدو الترحل الدائم، ومن الرحيل المستمر ولد البكاء على الطلول، والحنين إلى الأحبه، ومن هنا جاء الشعر منسجماً في أوزانه مع حركة أعضاء الناقة الراحلة، ومتقداً كشمس الصحارى اللاهبة، ومن هنا كان الرحيل باباً واسعاً من أبواب الشعر العربي القديم.
وقديماً وقف أمير شعراء العرب امرؤ القيس بن حجر الكندي على «سَمُرات الحي» وأرسل عينه وقلبه وهواجسه، ودخل في حالة من بكاء طويل، عندما مرَّ بطلول أحبته الراحلين. رحل امرؤ القيس، ورحلت فاطمة ورحل المكان والزمان، وبقي العرب يرددون: قِفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل.
أما الشريف الرضي، فوقف على «ديارهم»، حتى تعب جمله، ولامه مرافقوه، وعندما اضطر للرحيل ظل يتلفَّت بعينيه، ولما غابت الديار/الوطن «تلفت القلبُ»، كما قال في رائعاته الثلاثة:
ولقد مرَرْتُ على ديارهُمُ
وطُلولها بِيَدِ البلى نَهْبُ
فوقفتُ حتى ضَجَّ من لَغَبٍ
نِضْويْ ولجَّ بعذليَ الرَّكْبُ
وتلفَّتتْ عينيْ فمُذْ خَفيِتْ
عني الطُّلول تلفّضت القلبُ
لم يكن الرَّضي يعبر عن حالة من الحنين للديار وحسب، ولكنه كان يجسد القلق الوجودي لدى رجل ممزق بين الحب والسياسة والأصدقاء والطموحات. أما شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي، فقد صرخ:
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هُمُ
حيث مزج الرحيل بأدمع المكابرة، بالتوق للمستقبل، بالحنين للماضي، بالانشداد لمصر، بالارتداد لحلب، وجاء الرحيل لديه بنكهة الحب والسياسية، وخولة وسيف الدولة، حتى جاء شعره في الرحيل قصيدة غزل في امرأة لم يحظَ بها، ومقال نقد في سياسة رحل من حلب غضباً عليها، وبحثاً عن حريته التي أوقعته بين يدي كافور مصر: «فلا هو في العليق ولا اللجامِ»، كما قال.
وإذ ارتبط الرحيل بحياة الإنسان عموماً، والإنسان العربي على وجه الخصوص، فإن هذا الرحيل يجسد البحث عن الماء، عن الحياة، عن التجديد، إنه يمثل السأم من متلازمات الزمان والضجر من حدود المكان، والبحث عن المجهول، ومحاولة الالتحام بالدروب، حين تكون الرحلة هي الهدف الذي يصبو إليه الراحلون، وحينها يكون الرحيل أجمل من الوصول، لأنه يحدث أن تكون المتعة موجودة في الطريق إلى المدينة لا في المدينة ذاتها، وذلك عندما يصاب الراحلون- وهذا غالباً ما يحدث- بخيبة أمل عند الوصول، ليفيقوا على طريق رجعة متعثر بأحلامهم المبعثرة على الشطآن وسكك الحديد وشبابيك بيع تذاكر السفر.
إنه- إذن- العربي المشرد بين البوادي والحبيبات والسياسات والأوطان والأنظمة والسجون. العربي الذي يقضي أكثر من نصف عمره معلقاً بذيول الطائرات والقطارات والأمنيات، باحثاً عن وطنه، عن ذاته، عن ماضيه، عن مستقبله، وعن أشياء كثيرة ضيعها في دهاليز القصور الرئاسية والملكية، وردهات السياسات العابثة.
وتتمثل المفارقة والمأساة كذلك، في أن هذا العربي يفارق الأحبة بحثاً عنهم، ويذهب للمنافي ليسألها عن وطنه الذي تفلت من بين أصابعه، ويترك الأصدقاء ليلتقيهم في مطار صاخب أو محطة قطار مجهولة. ربما كان يبحث عن ذاته الضائعة، ربما عن تاريخ غرب مع شمس ذهبت وراء الجبال البعيدة ولم تعد، ربما أراد أن يجد نفسه في العدم، أو أراد أن يعيش في قلب الموت، أو أن يجد ضالته في متاهة حياته، التي يكتنفها الكثير من الغموض والبؤس والسياط والسجون والنياشين والرصاص والطوائف والمليشيات.
واليوم ترحل آلاف القصائد، وطيور الكناري والأدمغة والشعراء والكتاب والصحافيون والعلماء والمخترعون العرب إلى الضفاف البعيدة، حيث يغامر المهاجرون في عبور البحار العالية، علَّهم يجدون أحلامهم على الشاطئ الآخر، إذا نجوا من قراصنة البحار وأمواجها القاتلة، في رحلة البحث عن مدن لا تنام وأوطان لا تموت. إنهم يرددون مع محمود درويش:
«كن من أنت حيث تكون، واحمل عبْ قلبك وحده، وارجع إذا اتسعت بلادك للبلاد، وغيرت أحوالها».
*القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم