دلالات ألفاظ اللغة كانت في الأصل مادية محسوسة، ثم انتقلت إلى المعاني المجردة، مع تطور البشرية من مرحلة تحسُّس الأشياء بالجسد، إلى مرحلة أرقى من تمَعُّن الأفكار بالعقل، أو مع الانتقال من مرحلة «التحسُّس الجسدي» إلى مرحلة «التمعُّن العقلي».
مصطلح «ثقافة»، مثلاً ينفتح على التعامل مع الرماح من أجل تقويمها وتعديلها، لتصبح قادرة على أداء ما صُنعت لأجله، وهي أصلاً وصف للرماح، ولذا يقال «رمح مثقف»، لكن الوصف انتقل ليكون من خصائص اللسان، إذا قوّمه صاحبه في الكلام، ثم عُمِّم الوصف ليكون للإنسان المُلمّ بصنوف من المعارف والأفكار، حيث تطورت الدلالة من «الرمح المثقف» إلى «الإنسان المثقف».
وفِي القرآن الكريم جاء الفعل المضارع من وصف «الهداية»، كما في الآية، «وعلامات وبالنجم هم يهتدون»، لينفتح الفعل على دلالاته الحسية، حيث ترى حاسة البصر لمعان النجم في السماء، وسط ليل البادية أو موج البحر، فيستدل المسافرون على وجهتهم الصحيحة وسط الظلام الدامس وأمواج البحر ومتاهات البوادي. ومع الزمن تطور الاستعمال الحقيقي المحسوس للهداية إلى المعنى المجازي المجرد، لتصبح الهداية وصفاً لحالة من الرؤية النفسية والتجلي الروحي، والاستقامة على «جادة الحق»، في متاهات بادية الحياة، وأمواج بحرها المتلاطم، كما في الآية «وهديناه النجدين».
وهناك لفظ آخر هو «القدوة» التي تشير في أصل وضعها المادي إلى تحسُّس جوانب الطريق للسير في «سواء السبيل»، أو وسط الطريق. و»الرجل يتقدَّى»، إذا «تلمس أيسر الطرق». وهذا كما نرى، معنى حسي ملموس، غير أن «القدوة» انتقلت من الحسي الملموس إلى المجازي المجرد، كلفظ «الأسوة»، وغيرها من ألفاظ العربية الواردة في القرآن الكريم، باعتباره واحدا من أقدم الوثائق النصية للغة العربية. وفي القرآن كذلك، جاء الفعل «اقتده»، بالمعنى المجازي، كما في الآية: «أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده»، أي تلمس طريقك متمثلاً بهم، وجاءت الهاء في نهاية الفعل للتأكيد، وليست زائدة كما ذكر بعض القدماء، لأن الحرف إذا كانت له دلالة، فإن وصف الزيادة لا يليق به.
ومن خلال تأمل دلالات ألفاظ «الاهتداء» و»الاقتداء»، في القرآن- على اعتبار أنه وثيقة لغوية قريبة إلى روح مقاصد الشريعة في الإسلام، من خلال ذلك يبدو أن العقل المسلم اليوم مطالب بأن يفهم مدلولات «الاهتداء» و»الاقتداء»، وفق تطور الدلالة التي بموجبها لا تعني هذه المصطلحات بأي حال من الأحوال معاني استنساخ تجربة المسلمين في العصور الأولى للإسلام، ولكن استلهام هذه التجربة، ليتمكن المسلمون اليوم من خوض تجربتهم الخاصة بهم، بدون أن تُستلب الشخصية المسلمة المعاصرة لصالح شخصيات تاريخية، لا يمكن أن تتكرر، نظراً لاختلاف السياقات التي وجدت فيها، ولأن التاريخ لا يتكرر- بالفعل- إلا عند أولئك الذين لا يقرؤونه. ولكي نقرب الصورة، يمكن القول إن البدوي الذي يسافر ليلاً و»يهتدي بالنجم» في ليل البوادي لا يحتاج أن يكون نسخة من النجم، ولكنه يستلهم ضوء النجم ليستدل به على طريقه، وعلى الوجهة التي يريدها.
كذلك، فإن المسلم المعاصر الذي يقتدي بالنبي أو بصحابة النبي، أو برجال القرون الأولى ليس مطلوباً منه أن يكون نسخة مكررة من شخصيات تلك القرون، ولكن له أن يتخذها نجوماً يستلهم ضوءها، وهو يسير في بوادي الحياة وأمواجها العالية.
وللتوضيح بشكل أكثر نعود للآية «أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده»، إذ لا يعقل أن نفهم من الآية أنها طلبت من النبي محمد (ص) أن يكون نسخة مكررة من الأنبياء السابقين، لسبب بسيط وهو أن الإٍسلام لم يكن مجرد تكرار لليهودية أو المسيحية، في ما عدا الأصول المجمع عليها في كافة الأديان، والمتعلقة بالعقيدة، وبعض التشريعات التي لم تتغير بين الإٍسلام وشرائع الأنبياء السابقين، أو بلفظ آخر، فإن نبي الإٍسلام تطابق مع أسلافه من الأنبياء في الأصول، واختلف معهم في الفروع، وهذا أمر طبيعي وفطري، ومنسجم مع العقل والمنطق، ومع طبيعة التطور البشري، ولا يتعارض مع مطالبة القرآن للنبي بالاقتداء بسابقيه.
وكما كان محمد (ص) مختلفاً في وسائله وأدواته مع سابقيه من الأنبياء، ومتفقاً في أهدافه وغاياته معهم، فإن طبيعة التطور البشري، واختلاف الظروف الزمانية والمكانية، تحتم على الشخصية المسلمة اليوم أن تقتدي بنبيها- بالمعنى الواسع للاقتداء- في الحفاظ على الأصول، وتكييف الفروع، لمقتضيات «المصلحة العامة»، التي سماها الأصوليون المسلمون قديماً: «المصالح المرسلة».
ليست القضية بالأمر السهل الذي يمكن أن يناقش في مقالة صحافية، ولكنها تحتاج إلى مزيد من الجهد لتحقيق الكيفيات التي يتم بها الاستفادة من ضوء النجم، بدون أن تصاب الشخصية المسلمة بلوثة الاستغراق والتوحد مع النجم، لأن النجوم خلقت لتكون قدوة وهداية، لا أن يتم التماهي معها، نظراً لاستحالة التماهي بالنجوم على وجه الحقيقة.
إن هذه الدلالات حول مفاهيم «الاقتداء والاهتداء» تسهم إلى حد كبير في إخراج الشخصية المسلمة من جدل ثنائيات: الأصالة والمعاصرة، والقديم والجديد، والأصول والفروع والإلهي والبشري، حيث أُهدر الكثير من الوقت والجهد في معارك وهمية بين ثنائيات غير متعارضة أصلاً، إذا ما فُهمت على أساس أن إحداها تُعضِّد الأخرى، بشكل تؤسس فيه الأصالة لبنيان المعاصرة، وتتفرع المعاصرة من أساساتها الأصيلة، وبطريقة تشكل إبداعاً ناتجاً عن تراكم خبرات ومعارف اجتهادية ضمن المتغيرات، لا ابتداعاً ناتجاً عن محاولات تقليدية للخروج على الثوابت.
*القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم