مع تكسر أو توهم انكسار أحلام الشباب في الربيع العربي، وتراجع الآمال في إحداث التغير المنشود، وانتشار الفوضى، وسقوط «الشعارات» التي رفعتها بعض التيارات الإسلامية، وتهاوي الكثير من الشخصيات الدينية التي كانت تمثل- أو تبدو – رموزاً كبيرة، مع كل ذلك اتجه بعض الشباب إلى حالة عاطفية، يمتزج فيها الشك بالثورة على الثوابت، والسخط على السلطة السياسية، والتمرد على الثوابت الدينية، وإنكار، أو الشك في وجود الله.
ومع تزايد الكبت السياسي، والضائقة الاقتصادية رأى بعض الشباب أن صبَّ جام الغضب على «الذات الإلهية» أهون من انتقاد «الذات الحاكمة»، فاتجهوا لتفريغ حنقهم على «الحاكم» بتجاوزات ضد «الله»، وتنفيس غضبهم على السياسات بهرطقات ضد الأديان، في انعكاس لعوامل سياسية واقتصادية خالصة.
وفي استغلال واضح لما سبق، دخل على الخط بعض الانتهازيين الإلحاديين، الذين يمكن أن نطلق على تيارهم «الكهنوت الإلحادي» مقابل «الكهنوت الديني»، لأن كلا التيارين يهدفان إلى تطويع الإنسان لأهداف سلطة عليا دينية، كما في «الكهنوت الديني»، أو أيديولوجية، كما في «الكهنوت الإلحادي».
استغل بعض «كهنة الإلحاد»إذن هذه الظاهرة للنيل ممن يعدونهم خصوماً إسلاميين، وبدأوا يتقمصون حالة من «التحرر الفكري» المبني على «ردة فعل عاطفية»، أكثر من كونه «فعلاً عقلياً» يؤسس لحركة فكرية، وتوجه فلسفي عميق.
إن أهم مشكلات «موجة الإلحاد» العربية، إن جاز إطلاق اسم موجة عليها، أنها تتداخل فيها التوجهات السياسية مع الأطر الأيديولوجية، وكما يشكو الشرق العليل من علة «تسييس الدين»، فإننا يمكن أن نلحظ ضرباً من محاولات «تسييس الإلحاد»، بالمعنى الذي تخدم فيه كتابات «الملحدين» توجهات أيديولوجية وسياسية معينة.
جاءت موجة الإلحاد إذن، لا للقيام بعمل تنويري كما تزعم، ولكن لتزيح ما تتوهمه سلطة رجال الدين، ولتنتقم من تيارات «الإسلام السياسي» الذي ترى تلك الموجة أنه يستطيع أن يكسب الساحات الشعبية بالورقة الدينية، ولذا تعتقد هذه الموجة أنه يجب عليها أن تسقط الورقة الدينية من يد خصومها السياسيين والأيديولوجيين، بعيداً عن تحري الطرق العلمية في مناقشة فكرة وجود إله من عدمها. ومع خطورة توظيف التيارات الإسلامية للورقة الدينية لأغراض سياسية، إلا أن ذلك لا يبرر تستر بعض التوجهات الإلحادية لـ»الورقة العلمانية» للأغراض السياسية ذاتها، تحت يافطة «التفكير الحر»، الذي يتبناه «كهنة الإلحاد» الجدد. إن اعتناق بعض «كهنة الإلحاد» العرب لمصطلح «التفكير الحر»، يعد مغالطة واضحة، لأنهم أصلاً، ليسوا أصحاب المصطلح، وإنما نقلوه عن المصطلح الغربي “Free thinking”، ثم إنهم لا ينطلقون من أسس فكرية قدر ما يتحركون بمحفزات أيديولوجية لا تخلو من دوافع سياسية تتعارض- كما ذُكر-مع ادعاء التفكير الحر والسليم.
ولأن هؤلاء «الكهنة الملحدين»، الذين لا يختلفون عن «الكهنة المتدينين» في الوطن العربي، ليس لديهم مشروع فكري، وإنما تهويمات عاطفية، وطموحات سياسية، وعقد نفسية تحوم حول الرغبة في ممارسة الحريات الجسدية لا الفكرية، فقد اتجه بعض الذكور منهم إلى إنشاء حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي بمعرفات نسائية، لاعتقادهم أن الحساب النسوي سيجذب الكثير من الشباب المتمرد التائه، بعد أن مكثوا سنوات طويلة بمعرفات رجالية، بدون أن يلتفت إليهم أحد.
العارفون بالخصائص «الجندرية» في «أساليب الكتابة» يسهل عليهم تماماً معرفة أن كثيراً من الحسابات النسوية الإلحادية على صفحات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، هي لرجال يكتبون لجذب الشباب إلى كتاباتهم، في حركات فيها الكثير من التحرش الفكري، والسذاجة العاطفية والشذوذ الشعوري إن جاز التعبير.
لسنا إذن، أمام حركة فلسفية إلحادية عربية، كتلك التي يتصدرها أستاذ الطبيعيات في جامعة أكسفورد ريتشارد دوكنز في كتابه «وهم الإله» الذي شغف فيه بعبارة روبرت بيرسينغ في روايته الفلسفية «بحث في الأخلاقيات»، التي قال فيها إن «إصابة الشخص بالوهم تسمى جنوناً، لكن إصابة المجتمع بالوهم، تسمى ديناً»، ومن هنا انطلق دوكنز للتأصيل لفكرته عن «الإله الوهم»، مركزاً على الفصل ليس بين الدين والسياسة وحسب، ولكن بين الدين والأخلاق، كما يؤكد دوكنز، الذي ضمه روبرت ويتزل إلى كل من سام هاريس وكريستوفر هيتشنز مطلقاً عليهم «الثالوث غير المقدس» كنقيض لـ»الثالوث المقدس» عند المسيحية.
المهم هنا أن أصدقاءنا الملاحدة المفسبكين في العالم العربي، يختلفون ويتخلفون عن دوكنز وفلسفته عن الدين والأخلاق، وحتى دوكنز نفسه لا يبدو متأكداً، أو على يقين من صحة اعتقاده بعدم وجود إله، فهو يرى نفسه مرة Atheist وهو الملحد، وAgnostic، وهو المحايد دينياً الذي لا يعرف هل هناك إله أم لا؟ فيما جزم هؤلاء المفسبكون أو بعضهم بعدم وجود إله في منشور قصير، لكنه «جامع مانع»، على حد تعبير شيوخ المنطق.
ولأن موجة الإلحاد العربي الجديدة أقرب إلى السطح منها إلى المياه العميقة، فإنها تظل تخوض في مواضيع مكررة، مرددة الكثير من الشبهات التي دار حولها سجال طويل قبل قرون، بل إن بعض الملاحدة الجدد وقع في مطبات منهجية تنم عن سذاجة الطرح، و«ببغائية» التفكير.
يردد «كهنة الإلحاد» العرب التهمة الاستشراقية التي تقول إن الإسلام هو سبب تخلف العرب اليوم، وهذه حكاية قديمة ومغلوطة، لأن الإسلام دفع العرب إلى مصاف الريادة العالمية عندما جاء، فكيف يكون السبب في رفعتهم أمس هو السبب في تخلفهم اليوم؟ إلا إذا كنا نتحدث عن «تدين المسلمين» لا «دين الإسلام»، فهذا شأن آخر.
ويرددون أن الإسلام منسوخ عن اليهودية، وهي منسوخة عن ديانات قديمة لدى السومريين وأتباع زرادشت والديانات الشرق آسيوية، والحقيقة أن أياً من الأنبياء الثلاثة للأديان السماوية (موسى وعيسى ومحمد) لم يزعم أنه أتى بجديد، ولكنهم أكدوا على أنهم إنما يجددون القديم، وهذا ثابت في النصوص المقدسة للأديان الثلاثة، ولا يعيب المتأخر كونه أخذ عن المصدر ذاته الذي أخذ منه المتقدمون، كما تتحدث تلك النصوص، لأن أصول الأديان واحدة، مع اختلاف الفروع أو بعضها، بما يتناسب والتغيرات الزمكانية المحايثة.
أما مقارنة العالم الإسلامي اليوم بأوروبا المسيحية الوسيطة فخطأ آخر وقع فيه كهنة الإلحاد العربي، لأن الحلف الذي قام بين «الكنيسة والقصر» في أوروبا المسيحية نجح بسبب طبيعة المسيحية نفسها، التي تقوم على فكرة الإله/الإنسان (المسيح نموذجاً)، الأمر الذي مكن كلاً من الكنيسة والقصر من الترويج لفكرة الملك المقدس، والكاهن المقدس، اللذين نشأ بينهما تحالف صودرت لصالحه السلطة والثروة، باسم السماء. أما الإسلام فإنه على خلاف المسيحية يقوم على الفصل الحاد بين الله والإنسان، ولذا لن يكتب لمحاوات «الكهنوت الإسلامي» النجاح، رغم محاولات بعض تيارات «التشيع السياسي» إضفاء صفات إلهية على بعض الأئمة، للترويج لنسخة إسلامية من «الكهنوت المسيحي»، لكن تلك المحاولات غالباً ما تفشل، لأن فكرة الكهنوت القائمة أصلاً على وجود إنسان-إله، أو إنسان وسيط، وهي ضد جوهر الإسلام الذي يفصل بين «اللاهوت والناسوت» فصلاً واضحا.
لا مجال هنا لمقارنة الإسلام بالمسيحية أو العالم الإسلامي اليوم بأوروبا المسيحية الوسيطة، مهما حاولت بعض التيارات الإسلامية اجتراح «كهنوت إسلامي»، الأمر الذي أعطى بعض كهنة الإلحاد أملاً في بناء تصور لكهنوت إسلامي يمكن من خلاله الهجوم على الإسلام، ناسين أن التصور الإسلامي يقوم على فكرة أن الله غير الإنسان، وأنه لا وسائط بين الله ومخلوقاته.
ولأن موجة الإلحاد العربي مسيسة فإنها عمدت حديثاً، إلى الاستفادة من أعمال «الإرهاب» المروعة التي تقوم بها منظمات مثل «القاعدة» وتنظيم «الدولة»، كما حاولت الاستفادة من أخطاء تيارات «إسلام الحزب»، وتيارات «إسلام السلطة»، ومن التدين الأيديولوجي، والتدين السطحي الذي تروج له المدارس والجامعات في الدول الإسلامية، والذي لا يعكس روح «التفكير الحر» الذي دعا له القرآن، والذي تمثله فلاسفة مسلمون كبار مثل ابن رشد وغيره، ممن كانوا أساتذة لرواد النهضة الأوروبية.
ومن المضحكات في هذا السياق، أن صديقاً ملحداً قال لي مرة إن القرآن الكريم يحوي أخطاء إملائية فاضحة، وذكر أن «كتاب المسلمين المقدس» يخلط بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة كما في كلمة «جنة» التي تكتب حسب الرسم العثماني «جنت»، أو «نعمة» التي تكتب «نعمت»، في «خطأ إملائي فاحش» يثبت أن القرآن من عند محمد الذي لم يكن يعرف قواعد الإملاء، حسب الصديق العزيز الذي لا يعرف أن القرآن سبق زمنياً قواعد الإملاء المعاصرة، وأن قواعد الإملاء القديمة كانت فيها الأحرف بدون نقاط، وأن طريقة رسم التاء المربوطة كانت على هيئة المفتوحة، وأن القرآن يتعالى على كثير من القواعد في النحو والإملاء.
إن الترويج للأفكار الإلحادية عند المسلمين اليوم يأتي في سياق هجمة أوسع تستهدف المسلمين، لدفعهم إلى واحد من خيارين: الأول الالتحاق بالمنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب، لكي يستمر إيجاد المبرر لضرب بلدانهم، والثاني دفع الشباب المسلم نحو موجة من الإلحاد، لغرض تقسيم مجتمعات المسلمين إلى فريقين لا يلتقيان إلا في ساحات النزال، لكي تستمر «الفوضى الفكرية»، لا «التفكير الحر»، ولضرب السلم والاستقرار، وتقويض أي محاولة للنهوض العربي، ولتتواصل التدخلات الأجنبية في شؤون شعوب المنطقة.
*القدس العربي
اقراء أيضاً
عن المقاومة «الإرهابية» والاحتلال «الديمقراطي»!
كذبة فصل الدين عن الدولة
عدالة بيضاء.. لتذهب المحكمة إلى الجحيم