أصبح التطبيع مع إسرائيل، منذ أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، أحد مواضيع الجدل بين اليمنيين في مواقع التواصل الاجتماعي، على أثر إعلان الأكاديميّة اليمنيّة إلهام مانع، المقيمة في سويسرا، عن زيارتها إسرائيل أخيرا، وتعقيبها على خطوتها هذه بمقالاتٍ ومنشوراتٍ تشرحها وتبرّرها.
ما يُهمّ هذا المقال ليس مناقشة ما كتبته مانع تحديدًا، بل اتخاذه مثالًا لنقاش منطق بعض دعاة التطبيع مع إسرائيل عمومًا. ولكن قبل الدخول في النقاش، اتهام بعضهم مانع أنها قامت بـ "التطبيع مع إسرائيل" قولٌ فيه مبالغة؛ فالتطبيع تضطلع به كيانات وهيئات ومؤسسات، وليس الأفراد، إلا حين تغيب فرديّتهم، وتحضر صفتهم التمثيليّة لمجتمعاتٍ أو لمؤسساتٍ مثل الدول، والسفارات، والبرلمانات، والنقابات، والجامعات وغيرها. أما الأفراد بصفتهم أفرادًا، فأقصى ما يستطيعون فعله اتخاذ مواقف شخصيّة. وفي الحالة هذه، أقصى ما يمكن لهم فعله هو اتخاذ موقف مناصر للعنصريّة والدعوة إلى التطبيع. والاتهامات ضد أفراد زاروا إسرائيل، وزنهم التمثيلي لليمنيين والعرب يساوي صفرًا، بأنهم قاموا بالتطبيع، فيه تبرّع لهم بوزنٍ لا يطيقونه.
الملحوظ، والطريف إن شئت، أن عادة "وهب" الأوزان لا يمارسها أعداء التطبيع فحسب، بل ويمارسها دُعاة التطبيع أيضا، ولكن تجاه أنفسهم، منذ آباء دعوة التطبيع الأوائل في الحالتين على إسرائيل" الكلاسيكيّتين، المصريّة واللبنانيّة، على اختلافاتهما، وإن كان هؤلاء قد بالغوا في إعطاء وزنٍ جيوسياسي أو تاريخي للسلطات التي برّروا لها التطبيع، مثل أنيس منصور مع سلطة أنور السادات، أو مارسوا تضخيمًا شوفينيًا، ومن هؤلاء سعيد عقل في لبنان. ولكن خطاب "دُعاة التطبيع الجُدد" الذين يدّعون استبطان قيمٍ ليبرالية، ويدهنون خطابهم بطلاءٍ بلاغي لزجٍ، يمتح من قواميس المنظمات غير الحكومية الغربيّة، بالغ في توريم الذات الشخصيّة تحديدًا؛ فنجد مثلًا من يصف نفسه بأنه، بزيارته إسرائيل، صار من "رُسُل السلام".
مرةً أخرى، تقرير السلام (سلام الشجعان أو الجبناء، هذا غير مهم هنا) في صراعٍ تاريخي، تضطلعُ به دولٌ وجهاتٌ سياسيّة، أو في حالات نادرة، مؤسساتٌ وهيئات، وليس الأفراد. وثمّة أحيانًا في خطاب التطبيع أفكارٌ أكثر غرابة: من المشتركات بين أجيال زوّار إسرائيل من الأكاديميين والكُتّاب العرب، على اختلاف ظروفهم التاريخيّة، وجذور مواقفهم وبلاغتها، حجّة غريبة، وهي القول إنهم ذهبوا إلى إسرائيل لـ "التعرّف" على المجتمع الإسرائيلي حتى يعرفوا الحقيقة، أي أن هؤلاء يتعاملون مع المجتمع كأنه فردٌ يمكن التعرّف عليه بالزيارة والسؤال واللقاء المباشر، كما يفعل الطفل حين يتعامل مع الأشياء من حوله كأنها أفراد، فيغضب منها ويضربها ويصادقها. الغريب أن هذه الحجّة تصدر من كتّاب أو أكاديميين في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وهذا قد يدل على صورة المواطن العربي في عقول هؤلاء، وتفاهة العقل التي يفترضونها فيه، فيخاطبونه بمنطق الأطفال.
يقود موضوع "رسل السلام" هذا إلى أمرٍ آخر مهم في حياتنا السياسية والثقافيّة عمومًا، وليس موضوع التطبيع فحسب، وهو هشاشة الأساس الإيديولوجي لكثير من صراعات النُّخب العربيّة، مثلًا: يدفع شخصٌ رسوم تأشيرة لإسرائيل، يسيح في تل أبيب، ويكون صداقات شخصيّة، أو يصطاف في سواحل حيفا الجميلة.. حسنًا، في أيٍ من محطات هذه القصّة بالضبط يؤدى المرءُ "رسالة السلام"؟
واضح أن الأساس الإيديولوجي الحقيقي لدعوات تطبيعٍ من هذا النوع مشتقٌ من شيء آخر، وهو أساسٌ يعبّر عنه دعاة التطبيع أحيانًا في مناسباتٍ مختلفة في لحظات صدق، مثل القول إنه لا دخل لنا، نحن اليمنيين مثلا، بإسرائيل، ما دامت لم تضرّ اليمن بشكلٍ مباشر، أي أن القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة لهؤلاء ليست ألمًا وجدانيًا مبرّحًا ينتجه وعيٌ إنسانيٌّ بالظلم التاريخي، بل صداعٌ مزعج، يجب الخلاص منه بأسرع وقت، وبدون التركيز في الخيارات؛ فالموضوع ليس موضوع"نا" بالأساس، وليس من شأننا عدالته من عدمها.
لو أن كل زائرٍ عربيٍ لإسرائيل، وداعٍ للتطبيع معها، عبّر عن جذور موقفه بصدق، لكان نقاشنا وصراعنا ("نا" المتكلمين هنا تعود على كل من يؤمن بقضيّة فلسطين) السياسي والاجتماعي معه أكثر وضوحًا وإنتاجيّة وحسمًا، لأننا حينها سنخوض الصراع الحقيقي بشأن الاختلافات الجذريّة، ولكن بعضهم يفضل الخطاب اللزج والمُخَاتَلة، تعبيرا عن التناقض الإيديولوجي الحاد الذي يعتور قطاعات من النُّخبة العربيّة، في صراعاتها الاجتماعية والسياسية، خذ مثلًا على هذا التناقض من ينظّم حملات للإفراج عن معتقل رأي في السعوديّة، لكنه يقف مع "حقّ إسرائيل في الوجود"، ويمارس التضليل والكذب الصريح، بخصوص بنيوية العنصريّة في الدولة الإسرائيليّة! لقد أدى هذا التناقض النخبوي في عمومه (وليس التناقض إزاء فلسطين تحديدًا) إلى كوارث كبيرة بالمناسبة، واحد منها من أسوأ أمراض ثقافة النقاش السياسي العربي، وهو شخصنة الأمور، والبحث دومًا عن دوافع ومنافع شخصيّة بحتة، لتفسير المواقف والأفكار.
هذا إشكالٌ تشرّبته الثقافة السياسية من أنظمة الاستبداد العربيّة في طورها الراهن، حين اعتمدت الاغتيال المعنوي وسيلة أساسية لضرب خصومها السياسيين في الداخل والخارج، بواسطة كتائبها الصحفيّة والإلكترونيّة، لكن قطاعًا من النخبة العربيّة ساهم في تكريس هذا الإشكال، لأن مواطنين كثيرين يفقدون ثقتهم بالنخبة بسبب تناقضاتها، ولا يجدون تفسيرًا لها إلا في العامل الذاتي. وعلى الرغم من أن الأخير لا يقدّم تفسيرات مقنعة غالبًا، إلا أنه، مع الأسف، يكون صائبًا أحيانًا، خصوصا حين يكون التناقض مروّعًا، ويكون العامل الشخصي في المواقف واضحًا، ومن غير العقلاني استبعاده.
أما عند الحديث عن فلسطين، فالكارثة الثانية لزيف الأساس الإيديولوجي تكريس التناقض المفتعل (والمُعادي للمنطق) بين القضية الفلسطينية وكرامة الإنسان، وغالبًا ما يُذكر تناقض كُتّاب "الممانعة" الذين يلهجون بفلسطين، ويؤيّدون الإبادة الجماعيّة في سوريّة بقيادة نظام الأسد وحلفائه، للإشارة إلى هذه المشكلة، ولكن لا بد من ذكر تناقضٍ آخر، يُكمِل موضوعيًا مهمة خطاب الممانعة، وهو تناقض كُتابٍ متلبرلين يقفون ضد ممارسات بعض الأنظمة العربيّة القمعيّة باسم حقوق الإنسان، لكنهم يدعوننا إلى "التعرّف" على إسرائيل، وعدم إصدار أحكام مسبقة، في اللحظة التي تقتل فيها الأبرياء والمتظاهرين العُزّل في غزة، وتعلن كذلك للمرة الألف عنصريّتها وبنص قانوني.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
خرافاتُ البحر الأحمر وأباطيلُه
تداعٍ حر عن عالمٍ يتداعى: غزة والنظام العربي
صراع الرموز: عن الحوثي وثورة 26 سبتمبر