اليمن كله موجود في عدن حقيقة لا أحد يستطيع أن ينازع فيها، وعندما نقول اليمن كله فإننا نعني بذلك كل ما تحمله الكلمة من موروث وميراث وإرث وتراث وثقافة ومزاج وسلوك، في هذه المدينة الساحلية الساحرة تجمع اليمن من كل حدب وصوب منذ قرون طويلة. لم تتجسد اليمن بأكملها في مدينة مثلما تجسدت ذات يوم في عدن.
في عدن تخالط اليمنيون، تثاقفوا، تصاهروا، اكتسبوا مدنيتهم باحترام مدينتهم، تعلموا السياسة، وتعلموا كيف ينظمون أنفسهم في تجمعات مدنية، وتعلموا احترام العمل، وتعلموا التعايش وكيفية احترام حقوق الآخر، وأهم من هذا كله تعلموا كيف يشيدون الدولة ويحترمون القانون.
كان البحر يخمد حرارة وطيش السهل والجبل لدى أولئك القادمين إليها، ويعيد تشكيلهم بإيقاعات الموج المتكسر على شطآنه وسواحله، نقلوا إليها الصالح والطالح من مناطق وفادتهم. أما الصالح فقد شكل رافداً للتطور المدني، وأما الطالح فقد أخذ يتكاثر مع كل نكوص كان يعتري مسار هذا التطور ويتجمع كبؤر أخذت تتشكل وتشكل عوائق أمام الانتقال نحو العصر.
جميعهم اختلطوا مع من جاء إليها من أقوام من خارج اليمن خلال عقود طويلة تأهلت فيها لتؤسس نموذج المدينة والمدنية التي يحلم بها كل عاقل ورشيد، أقول وأكرر، لن يصلح حال اليمن إلا إذا صلحت عدن. اليوم الذي أهملوا فيه عدن وعملوا على تحويلها إلى مجرد مدينة بلا مستقبل خربوا مستقبل اليمن بأكمله.
والتخريب الذي يجري في عدن يمارسه في الاساس أولئك الذي أوكلت إليهم مهمة تخريب اليمن بأكمله، لهذا تكاثرت بؤر وجيوب التخريب، بأشكاله المتعددة، واشتد عودها وتحولت عدن إلى مكان لتصفية حسابات مع كل محاولة لاستعادة الدور المحوري لهذه المدينة في التعايش والنهوض الوطني.
وظفت الوحدة، التي تبلورت ونمت وترعرع عودها وتحققت في هذه المدينة، لتغييب دور عدن كمركز لنهضة اليمن، وأدى تغييب دورها المحوري في قيادة هذا النهوض وتحويلها إلى ملحق لمركزية غارقة في مجاهيل التاريخ، إلى إهدار الفرص لإخراج اليمن من مأزق التخلف إلى فضاءات العصر، وعندما غدر بالوحدة السلمية انتكست معها عدن كنتيجة طبيعية لهذه العلاقة التكاملية.
تجرعت عدن أكثر من غيرها مرارة هزيمة الوحدة بالحرب، أفرغتها الهزيمة من كل العناصر الديناميكية التي ظلت تشكل روافد المشروع الوطني، وهو الوضع الذي تكسرت معه أضلع هذا المشروع العظيم بأدوات متجزأة من تاريخ عجائبي تشكل بالغارة والغنيمة.
رسمت الهزيمة خطاً فاصلاً بين مشروعين: الوطني والتفكيكي، وكان أن حولت عدن إلى غنيمة حرب بكل ما تحمله الكلمة من رذالة وانكسار للحلم. من هذه النقطة بدأ التوهان يتمدد بحرارة وصخب الصوت "الوحدوي" العالي المفرغ من نبالة الوحدة.
انعكس هذا التصرف، المفعم بفجيعة الرعونة التي ولدها انتصار بليد، على اليمن بأكمله. وحتى بعض المدن التي صيرت وعاء يستقبل كل خيرات اليمن، بقرار تسلطي مركزي، لم يسمح لها أن تكون مدناً لكل اليمنيين، حاولت لكنها قمعت بجبروت الثروات المنهوبة. صارت مدناً للأثرياء الذين بنوا ثرواتهم بالسلطة والنفوذ والفساد وإدارة الاغتيالات.
فشلت هذه المدن في أن تكون "عدن" قبل أن يغمرها طوفان التمرد على أصالتها كرد فعل لما أصابها من غبن وإهمال.
في ظروف الانهيارات القيمية تتشكل ثقافات شعبوية تؤسس لمزيد من الانهيارات على غير ما تقدمه للناس من آمال وأحلام، استطاعت هذه الثقافات أن تنتقم من المشروع الوطني وتتغذى من إخفاقاته، وكانت عدن الساحة التي تجمعت فيها روافد هذه الثقافات بعد نكسة الوحدة، وهدفت إلى تدمير جسورها مع تاريخها لتبدو مع سبق الإصرار وكأنها مدينة بلا هوية وبلا تاريخ.
عدن هي ضحية كل هذا الهوس الذي عجن اليمن بالغلبة والفساد احتكارا للسلطة والثروة، ومن داخل ذات البؤر التي صادرت مستقبل اليمن توالدت جحافل الفيد، وإن بزوامل مختلفة الكلمات ولكنها بنفس المضمون.
تمردت عدن على نظام صالح الذي قمع حلمها وحوله إلى وسيلة لتوسيع نفوذه وسلطته بالحرب والإفساد والإلحاق، انتفضت في وجهه، عمل نظامه على تشويه تلك الانتفاضة بزرع ثقافة الكراهية والانعزالية بواسطة أبواقه التي انغرست بشعارات شعبوية استهدفت دمغ المواجهة الشعبية مع نظامه بأقبح صفات الكراهية والانعزالية.
لكن عدن تفوقت على كل تلك المحاولات الرديئة ووضعت خياراتها بعناية، ولكي يتم الانتقام منها توجهت إليها جحافل الانقلابين الحوثيين والفيد قبل غيرها من المدن الأخرى لتدميرها على نحو لا يمكن أن تستوعبه أي ذاكرة تاريخية إلا بأنه انتقام من المشروع المدني المقاوم للعصبية المتخلفة وعصبها المتنفذة.
ما تعيشه عدن اليوم هو نتيجة ذلك التدمير الذي ألحقته الحرب بعدن، والتخريب الذي طال في المقام الأول أصالة هذه المدينة بتجميع روافد الصراع من كل فج إلى داخلها، والعمل على وضعها خارج تاريخها، وخارج مدنيتها، وخارج تسامحها، وخارج بحرها، وخارج نشأتها، وفي تضاد مع كل عوامل النهوض التي شكلت ذات يوم عنواناً لمستقبل تطلعنا إليه وحلمنا به.
مهما بدا أن عدن قد أثقلت بأرزاء اليمن من أقصاه إلى أقصاه، إلا أنه ومن داخل هذه المدينة، وبصوتها فقط، ستتقرر خيارات المستقبل، فعدن لا تستطيع أن تغادر مسئوليتها، ولا يمكن أن تجر خارج تاريخها.
ستفرض خيارات المستقبل مهما تكالب عليها الرصاص وغطاها البارود وقمعتها كاتمات الصوت وحرارة الصيف والحسابات الغلط التي تتجاهل قيمة هذه المدينة في معادلة الحياة، عدن بوابة الحل لمشاكل اليمن رغماً عن كل المحاولات التي تعمل على ربطها بمعادلة الموت والإلحاق.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
لا تراجع.. بل المزيد من فرض قيم وسيادة الدولة
البنك المركزي اليمني.. وقرار توسيع وترشيد المعركة
هل تعلمنا من الدرس؟!